القرنفل التبريزي

435

من رواية…

القرنفل التبريزي

تحت الإنجاز

ابتدأت التفكير بالقراءة قبل تعلمها، فمنذ أبصرت الحروف وأشكالها الغريبة لأول مرة، اعتقدت أنها من صُنْعِ شيطان رجيم، بدا لي مظهرها الشيطاني شعوذة، وطبيعة تشكيلها دجل، دأبت بشغفً وخوف على تأمل سحنتها، من انحناءات وتعرجات، دوائر ومستطيلات وزخرفات، فواصل ونقاط، وأشكال هندسية، بعضها فوضوية، كنت أراها وأتساءل عن مخترعها، كل تلك الرموز ظننتها طلاسم من عمل إبليس، إلى أن سقط بيدي كتاب القرآن، بأول وهلةٍ وعند تلمسي لمصحفٍ بينما كنت بأحد الكتاتيب، زاد ارتباكي بنسيج العبارات والفقرات المعقدة الشكل الواردة فيه، حتى أني حفظت بعض الآيات دون أن أفكّ حروفها، وحين بلغت السابعة وولجت لأول فصلٍ بالمدرسة، تفككت حلقات الغموض من رأسي وتحرر ذهني من اللغز، حين بدأنا نلفظ الحروف ونصيغ منها كلمات صغيرة، سطحية، لكنها في حينها كانت بمثابة اقتحام مغارة علي بابا والإفراج عن الكنز. بدأت شيئاً فشيئاً تسريح الجهل برأسي من عقدة الحروف، وأخضعت عصيان الحروف والكلمات لإرادتي، ورحت أُرَكْب منها كلمات سطحية، في حينها كانت ثورة في ظني، بمؤازرةٍ من مُعلمِ العربية بالفصل الأول الابتدائي، الذي رصد فضولي وشغفي بالحروف وتركيبها في كلماتٍ، فأغدق عَليّ من العناية ما زاد من غرامي باللغة التي أضحت بعد فترة وجيزةٍ من الوقت، حديقة زاهية بالعبارات، وإثر فصل بعد آخر، غَدَّت لغتي الأثيرة، فدأبت القدح من بحرها، أغرف من محيطها، وألتهم الحروف والكلمات والعبارات وكأنها سلةُ أطعمة شهية، حتى بلغت مرحلة الكتابة بالحروف والكلمات فأصبحت ساحرها.

لا إمام سوى العقل

تلك كانت البدايات العشوائية، انشق منها فيما بعد، عشقي للمتنبي وأبو العلاء وأبو نواس وقائمة الشعراء الذين شكلوا نوبات الجنون التي جعلتني أتسلق الأحلام بهم، وأعانق كوابيس الليل حتى أُدْرِكَ الوحدة والسكينة، فأعتزل العالم معهم وأبحر في ثغر الزمن السحيق، بحثاً عن شجونهم التي القت بيّ في نهاية المطاف، بمرفأ أبي العلاء المعري. خزف اللغة، وموسيقى الشعر، وبحور الأوزان، وكل تلك الرهانات على الماضي أوْدَت بيَ إلى الوقوف عند عتبة باب المعري والانسلاخ عن كل الشعراء والفلاسفة والانتظار بقرب مَعّرة النعمان بإدلب الشام التي قادتني لها صدفة عابرة، بطريق حلب، لِتُولّد كل الوقائع التالية التي لم يكن لها أن تقع لولا الذرائع.

الصوت ذاته يكابدني من جديد ويمتص بعضٌ من مرارة الوحدة، فألجأ إلى لعبةٍ قديمة أتقنت من خلالها الفرار من شعور الرتابة، وهي أن استلقي وأغمض عيني، والبعض لا يفهم لماذا الأعمى يَغْمضُ عيناهُ، ليشعر بالظلام، وينزلق في أحلام اليقظة التي أتخيل قصصاً اخترعتها لنفسي، حيث أُسافر وأقيم علاقات عابرة، تغرم بيّ النساء وأحصل على الجوائز، وأُلقي الخطب من فوق المنصات فيصفق لي الجميع، كانت تلك لعبتي بسن المراهقة، عدت أزاولها للإفلات من مشاعر السأم التي تنتابني كلما وجدت نفسي وحدي بالدار، وحتى عندما أجتمع مع تغاني أجدني وحيداً لأني لا أرى من وجهها ردة الفعل وهي معي، هل هناك أعقد من هذه المشاعر؟ أنها تقودني للجنون وهي تنزلق بي لوحشةٍ تلوح في دوراني داخل المنزل، من غرفة لأخرى، ومن صالة إلى حمام، أمضيتُ أجول بالساعات بين أروقة الدار، لا أشكو من شيءٍ سوى فراغٌ ووحدة وشكّ. ظَلّلتُ ليالٍ أبكي بلا دموع، أشعل شموعاً وأشمّ عطرها، فأرى برائحتها ما لا تراه عينايّ، فالشموع تَحلّ بدل العين، ليس هذا جنونٌ، بل تدبيرٌ صغته لأجل تَجًنُّب الجنون، هكذا يفكر الأعمى.

وأخيراً عندما حسمت الأمر وقررت الفرار إلى مَعّرة النعمان وردتني الأخبار صاعقةٌ، ذكرت بأن مدينة إدلب قد سقطت، وإن الدينيين والعلمانيين، والجنود والغزاة، دَمَرُها، وسفكوا بكارتها، أدْرَكتُ أن حروف اللغة التي اعتقدت أنها من صنع الشيطان وشعوذة إبليسَ، بطبيعة تشكيلها، هي دجل، وكنت شغفاً بها، بانحناءاتها وتعرجاتها، بدوائرها ومستطيلاتها مع زخارفها، فواصلها مع نقاطها، وكل أشكالها الهندسية الفوضوية، لم تكن سوى كابوس لما سيجري بعدها بمجرتي التي تلت حادثة الحريق، سأسرد اللغز من البداية قبل أن أحطم صنم الجاهلية الحديثة.

– وَيْحكَ أبي العلاء المعري، سجنتني معك…

“تَوَهَّمتُ خَيراً في الزَمانِ وَأَهلِهِ وَكانَ خَيالاً لا يَصِحُّ التَوَهُّمُ فَما النورُ نَوّارٌ وَلا الفَجرُ جَدوَلٌ وَلا الشَمسُ دينارٌ وَلا البَدرُ دِرِهمٌ”

 



from WordPress دار لوتس للنشر
via IFTTT

Comments

Popular posts from this blog

رؤية معاكسة ضد تيار المقاطعة!