رؤية معاكسة ضد تيار المقاطعة!

 

X002

ثقافة الأفيال الضالة؟

رؤية معاكسة ضد تيار المقاطعة!

احمد جمعة

الثقافة نبضٌ، وعيٌ،  جسر بين الشعوب، تلملم الجراح وتضيق الخلاف وتتسلل بين ثقوب الكراهية لتمحو بقدر المستطاع تلك النتوءات التي خلفتها موروثات قديمة بين الشعوب، تغذيها الأديان، استغرب بعد كل هذه القرون المديدة من الكراهية، وحتى بعد زوال الأنظمة الثيوقراطية والدكتاتورية من العالم، كالنازية والفاشية، أن تنامت اليوم مشاعر طارئة تحقنها سياسات منزوعة الإنسانية بمنهجية أيدولوجية،  ومنتهية الصلاحية، بهدفالإبقاء على صراعات الجماعات، طوائف وقوميات وشرائح، مستمرة لمصلحة ضيقة تتمثل بمحاولة السيطرة على عقول الشعوب وحملها على مزيد من كراهية بعضها البعض، هذا ما نراه اليوم بأشكال صارخة بين قوى يمينية متزمتة وبين قوى تنويرية تحاول نشر ثقافات التفاهم والسلام، وتبرز تلك الصورة صارخة بين العرب واليهود، تغذيها قيادات ثيوقراطية على رأس السلطة على الضفتين، وتكتوي بها أطراف إنسانية وتنويرية تحاول تضيق الهوة بين الثقافتين العربية واليهودية، ولو تحقق ذلك لزال الكثير من الاحتقان وذابت الكراهية وأمكن رؤية ثقب لبصيصٍ من ضوء يقود لنزع الكراهية من المنطقة التي عمها الصراع منذ قرون بسبب مشاعر الكراهية وأخطاء ارتكبها عمداً مرجوا السلفيات الدينية بمختلف أطيافها لبث الكراهية، والسيطرة على عقول القطيع!

من نافذة المواجهة الصريحة ومن رؤية موضوعية تنأى عن المجاملة والسير في قافلة المطبلين للمقاطعة العمياء التي تسود المنطقة منذ عقود وقائمة على تجنب الاقتراب من ثقافة الآخر، أرى أن قراءة عقلانية للمشهد الثقافي من جديد في المنطقة، كفيلة بفتح ثقب في جدار الخوف من ثقافة الآخر، وهو خوف غير مبرر ولا يستند على ثقة بالنفس، فمنذ سنوات الصراع السياسي والدموي مع الدولة العبرية، كان هناك بداخل المجتمع اليهودي في إسرائيل نزوع بل استقطاب للثقافة العربية، وبلغ القبول حد أن تجسد بوضوح صارخ، في شوارع رئيسية وميادين عامة هناك احتفاء بأسماءكنجيب محفوظوأم كلثوم وعبدالحليم حافظ واسمهان، كما تُعْرض الأفلام العربية وتذاع الأغاني العربية وتترجم الروايات والأشعار العربية، دون أن نلمس ذلك الخوف والهلع من تأثيرها على العقل اليهودي، بعكس الشعور في الجانب العربي الذي يخشى من ذكر مجرد عنوان رواية يهودية أو ترديد مقطع من أغنية أو بيت شعر، حتى أن مجرد ذكر عبارة لكاتب يهودي، علماً بأن مئات من المثقفين اليهود والأدباء والفنانين تعاطفوا مع الحقوق الفلسطينية أكثر من كثير من العرب دعاة المقاطعة، يشكل صدمة للوجود العربي برمته، يا للهول!! هل تلاشت ثقتنا بأنفسناوبحضارتنا وتاريخنا وموروثنا؟ ألا توجد قاعدة صلبة تحفظ هذا التراث؟ هل حضارتنا كلها ريشة في الهواء، مثل كذبة لم تقوَ على صد نسمة هواء؟ لا أنكر على الإطلاق وجود تيار يهودي متطرف وبداخله كراهية للعربي يفوق المتصور، وهذا يقابله بالتأكيد تيار عربي مماثل يلتقيان بالنهاية عند منعطف تتوحد فيه مصلحتهما ببقاءواستمرار وتعمق الكراهية، هذا لا يلغي أن الكراهية متبادلة، ولا يلغي أن إسرائيل اغتصبت أرض فلسطينية ولا يلغي حق العودة لسكان الأرض الأصليين، كل ذلك مؤكد وثابت، كل العالم مع الحق بما فيه حتى تلك السياسات المتعاطفة مع الدولة العبرية ترى حق إقامة دولة فلسطينية مستقلة.

أعود لصلب الموضوع وهو الثقافة… الكراهية عبر العصور والحقب كانت تذوب عند مرافئ الثقافات، فالرواية والقصيدة واللوحة والموسيقى، إذا كانت حقاً ثقافة تنويرية وإنسانية وليست واجهة لخطاب الكراهية، من شانها إذابة الأحقاد بل وزرع بذور للسلام والتفاهم مع الآخر، وهذا يتعارض مع أي خطاب ثقافي ديني أو سياسي، أو اعلامي، كتلك التوجهات التي تحمل عناوين براقة ولكن بمحتواها تعمق الكراهية مثلما كان قبل سنوات حين انتشر مفهوم غير واقعي تحت يافطة “أدب المقاومة” ربما رمى منه البعض عن غير قصد تلميع أو تأريخ بعض الأحداث الدامية التي كانت بمثابة صراع مع قوات الاحتلال الإسرائيلي، لكن ذلك العنوان كان عبارة عن ترويج للمواجهة الدائمة، كما أن نتاجه في الغالب خلى من الإبداع وغلب عليه الطابع التقريري، لكن ظل هناك نتاج حقيقي تمثل بأسماء حقيقية مبدعة كالشاعر سميح القاسم والروائي إبراهيم نصر الله والشاعر محمود درويش وهم أسماء متميزة بسماء الثقافة العربية. لكن ظل عنوان أدب المقاومة ظاهرة فقاعية بدليل اختفائها من الواجهة الثقافية منذ أمد بعيد، فهل من اللامعقول بخضم المتغيرات الكونية البقاء عند سفح الحياة الثقافية التقليدية ذات الطابع السياسي والتقريري، الموجهة من قبل تيارات وأحزاب وأيدولوجيات.

العالم عبارة عن ثقافة واحدة منصهرة في قوالب ثقافية عدة، تتبادل المعرفة الإنسانية، لا توجد كراهية لثقافة الآخر وإلا انتفت عنها صفة الثقافة، ومن سخرية تناقض التعايش الراهن للثقافة العالمية، أن هناك عناصر شاذة ببعض الشعوب تعادي ثقافة الآخر، بل وتصادرها وتنسج بينها جدار عازل بحجة ثقافة العدو، (غزو ثقافي) وهذا مضحك لأنه يعكس شعوبية قائمة بمشاعر كتاب وفنانين متوجسين من الآخر بتطرف يكاد يجعل من تفكيرهم أقرب للفاشية الثقافية!! وهي نوع من المنتج المدعوم بموروث قهري قائم على عقود من التفكير غير السوي ناتج عن أرث سياسي وديني يرى في الآخر عدو، لا أنكر أن هناك حروب وصراعات ودمار بين الأمم منذ الأزل، وهذا تاريخ مؤسس على صراع الحضارات وتناقضاتها، لكن عندما يبلغ الأمر مرفأ الثقافة، هنا تذوب السياسات والأديان ويتحرر المثقف والفنان والكاتب من عقد الصراع وتنبثق الثقافة موحدة للشعوب، فالأنظمة والحكومات تمثل مصالح الطبقات العليا المتسلطة، أما الثقافة فهي نتاج الشعوب وجديرة بالاحتكاك مع بعضها لإزالة الاحتقان لأجل التقارب الإنساني ولهذا استغرب من أولئك الذين يطعنون في ثقافات الآخرين ويبلغ الأمر بهم لتخوين كل من يتقارب وينصهر بثقافة غيره من جنس البشر، فهناك جدار سيمك عازل يجسد الخوف من الآخر، وهذا نابع من توارث الأفكار المسبقة التي ورثناها من أجيال سحيقة غرست فينا كره ثقافة الآخر بحجة أنها تمثل غزواً لعقولنا بهدف تدميرها وهي استهانة بعقل الإنسان عندما نشكك فيه ونلغيه ونخشى غزوه في الوقت الذي نرى فيه الآخر على الضفة الأخرى يستقبل ثقافتنا ويتفاعل معها بل ويتبناها، فلماذا الخوف فقط من جانبنا؟ هل نحن بهذا الهزال والضعف وعدم الثقة بجدارنا الناري!

كيف نخشى أغنية ورواية؟ ونسعى لكسب معركة قومية؟! كيف نصادر قصيدة عبرية وبعواصمنا سفارات للدولة العبرية؟ كيف نطلب من مواطن عربي في أقصى المحيط أو الخليج برفض التطبيع مع العدو وبذات الوقت نرى الحوار والتبادل بين السلطة الفلسطينية والقيادة الإسرائيلية؟ كيف نتظاهر ضد مؤتمر المنامة ونصفق ونتقبل بصدر رحب لقاء قابوس نتانياهو؟ كيف وكيف؟ أسئلة ليست محيرة أبداً بقدر ما هي سريالية بعالمٍ فقد الواقعية؟

الأدب بالذات يعتبر نافذة الشعوب، الرواية والمسرحية والقصيدة، جسور تواصل تزيل الاحتقان بين البشر شريطة أن تنحاز للإنسانية، تزيل عنها الكراهية وتنم عن انفتاح ذهني واسع لا يشتمل على أي أحقاد أو ايحاءات عنصرية أو عرقية أو طائفية، المبدع، لا خطوط حمراء ولا محرمات ولا عوازل تحد من نزعته الطبيعية الغريزية للحياة من خلال تقبله لكل الأفكار والأطياف، محيطه خالٍ من الدين والجنس والقومية واللون. من هذا المرفأ الإنساني ينعتق الأديب من جذوره التي تغذت خلال عقود سحيقة على الكراهية، سأتقبل الفكر والثقافة والفلسفة أيٍ كانت منشأها دون حساسية للموروث العصبي. سأقرأ رواية يهودية ولن أحس بتأنيب، لأن هناك بالضفة المقابلة من يقرأ روايتي، وكذا الأمر في المسرح والسينما والموسيقى والغناء، وأي نتاج يحمل بمضمونه انحياز سياسي أو عنصري فهو خارج سياج الثقافة وينخرط في سلة الكراهية ولا ينتمي للحضارة الإنسانية المبنية على ثقافات الشعوب.

لا أفهم ولا أريد، أن أفهم دعوة المقاطعة التي يرفها بعض المثقفين والأدباء العرب بوجه الثقافات الأخرى، كما لا أستوعب رفع يافطة “الغزو الثقافي” وهو مصطلح غبي يدل على ضيق أفق من يروجه، هناك ثقافة إنسانية وهناك كراهية ثقافية، ومن السهل التمييز بين الإثنين. فكل ما يحمل كراهية للآخر لا يمت للثقافة، هكذا الأمر واضح لا يحتاج لمقاطعة، فأي رواية إسرائيلية تنم عن نفحة كراهية للعرب فهي خارج دائرة القراءة ولا تمت للأدب ولَسْتُ معنياً بها، وبالمقابل أي رواية عربية تنم عن كراهية لليهود، فهي أيضاً خارج حلبة الثقافة ومحكوم عليها بالموت، كالأولى، يبقى في النهاية هناك أدب أو كراهية أي كان مصدر ذلك المستنقع من الكراهية؟

العالم، تجاوز عتبات الخوف ونحن ما زلنا أسرى الخوف وكأننا ريشة في مهب الهواء، إلى متى الخوف من الآخر وكأننا منزل قائم في الهواء بلا أعمدة تحميه؟

6a9fa65cfcec424b400c0370f9b4c801

 



from WordPress دار لوتس للنشر
via IFTTT

Comments

Popular posts from this blog