مصير الخونة على السفينة بنفسج مقطع من الرواية

مصير الخونة على السفينة بنفسج

مقطع من الرواية

 IMG_2320

«أول ما ينبت الشعر الأبيض في رأسك، ستضحين الربان

أقسمت له أنها منذ يومين رأت شعرة بيضاء سقطت من رأسها،

ضحك وقال لها أين شعرك؟ أصعب السنوات كانت تلك التي حظيت

بالمواجهات مع السفن الأجنبية ومع سفن الغرباء المجهولة التي

كانت تقتحم المنطقة لسلب المراكب التي تحمل المؤن والمعادن،

لم تستطع البحرية الملكية البريطانية أن تتكفل بحماية البحار كافة

في المنطقة ما دفع السليط إلى أن يوكل إلى رجاله مهمة التكفل

                   بحماية السفن العابرة مقابل نسبة من المؤن وقدر من الأموال. كان

يفرض ما يشبه الجزية أو إتاوة على كل من يعبر العباب، وبذلك كان

يغذي رجاله وسفنه إلى أن بلغ حقبة بدأ فيها أعداؤه يتحالفون عليه

رغم ما بينهم من حروب وصراعات جانبية، دخان ودمار ورعب عم

البحار، نمت بنفسج في خضم هذه الأجواء وتربت على المجازفة

إلى أن حانت اللحظة التي حررها السليط من الشكوك في ضعفها أو

إرادتها بعد أن امتحنها في إحدى المواجهات حينما اشتعلت النيران

في مقصورته التي كان يقود منها حربه مع سفينة تركية حربية مجهزة

للحروب بين الدول. كانت مغامرة منه خوض تلك المجازفة لكنه

بعد حسابات قام بها أذعن لنصيحة عابرة تفوهت بها بنفسج عن

رؤيتها له وهو يدمر تلك السفينة المجهزة بالمدافع البعيدة المدى

والمتعددة القذائف، لم يطلع رجاله على تصريح بنفسج خشية الشك

في سلامة عقله، اكتفى بإعلان رغبته في مواجهة تلك البغلة التركية

المخيفة فنصحه بعضهم بتجنب الاحتكاك بها، وعندما أبلغ سراً إلى

بنفسج رأيهم أجابته بأنه يضيع فرصة انتصار سترويها الأجيال، لأن

أحداً لم يسبق أن واجه تلك السفينة، حتى الإنكليز يعلمون عنها

ويتجنبونها، تجرد ساعتئذ من عواطفه وأجرى حساباته البحرية

والحربية وفحص الأمور من جوانبها كافة وقرر مشورة بنفسج الفتاة

التي لا علم لها بفنون الحروب والمعارك سوى أنها منحته تخميناً

لا يُتَّكَل عليه من ناحية العقل. قامت حساباته على قصر مدى مدفعه

وطول مدى الأخرى، لكنه رتب بعناية قصوى مناورة محبوكة مع

بقية سفنه الأربع قبل أن يوحي للأتراك بنيته، منح سفينتين من سفنه

حرية الاقتراب من السفينة التركية ثم رتب سفينتين أخريين في ركن

من المياه معاكسة للرياح وسرعتهما بطيئة جعلهما تناوشان السفينة

التركية، استغل انشغال السفينة المعادية بطرفي سفنه الأربع وانقض

عليها وأمطرها بقذيفتين هائلتين ردت عليه البغلة التركية بقذيفة

لانشغالها بالسفن الأخرى ما أدى إلى اشتعال النيران في مقصورته

فهرعت نحوها بنفسج لتطمئن إليه وفي الوقت نفسه طفقت تساعد

الرجال على إطفاء الحريق، لم تبالِ بالنار والدخان الذي عم المكان

واختنق به عدد من البحارة فيما كانت هي تتحرك بضراوة وكأنها

الساحرة التي ذكرها الحول منذ كانت طفلة.

عندما رأى الرئيس السليط ألسنة النيران تتصاعد من البحر

على بعد فرسخ اعتقد رجاله أن إحدى سفنهم دُمرت لكن الدهشة

علت وجوه الجميع عندما أعلنت بنفسج أنها السفينة التركية تحترق

ونصحت بقذيفة أخرى توجه نحو مصدر النيران حتى يتم الإجهاز

الكلي عليها، شك الربان ومساعدو الرئيس في سلامة هذا التخمين

الذي صدر أمامهم على السطح وهم يطفئون حريق القمرة، كان

مصدر الخوف أن تتوجه الطلقة نحو إحدى سفنهم المصابة بدلاً

من السفينة التركية التي لا يمكن التأويل أو التكهن بنصيحة فتاة

يانعة رغم ما أبدته خلال السنوات الماضية من رجاحة ومجازفة.

لكن الرئيس تصرف بسرعة وقبل فوات الأوان وجازف لأول مرة

في حياته بقرار حربي يرتكن فيه إلى صوت صبية في نظر رجاله،

قام بتربيتها ولم يشبّ عودها بعد لتصبح صاحبة رأي حربي.

حين أطلق القذيفة، تحول البحر إلى أخشابٍ وجثث وتلون

الماء بلون الدم، اقترب مسافة من المكان، كان اللهيب يعم المحيط

والسماء بدت سوداء من شدة الدخان، حينئذ أدرك السليط أن هذه

الفوضى مصدرها السفينة التركية، كان الثمن إعطاب مقدمة إحدى

سفنه تم إنقاذ بحارتها ومقاتليها، في المقابل غاصت البغلة التركية

جثة هامدة في القاع، لتتحول تلك الحادثة إلى رواية تحكى في

المنطقة، دفعت سلطان عُمان لدعوة السليط على مائدته لكنه من

يومها ظل لثلاث أو أربع سنوات في البحر لا يغادره إلا من سفينة

إلى أخرى. كانت تلك المناسبة التي أدت إلى إطلاق اسم بنفسج

على السفينة البديلة التي أوصى بها لتجهز في غضون سنتين وبضعة

أشهر.

هل كانت حقاً ساحرة كما تيقن الجميع؟ هل كانت صدفة أو

مجازفة ضربت كما شاء القدر؟ ظل الكلام والتأويل فترة طويلة

حتى إن البعض تجنب الخوض مع الفتاة في أي حوار تجنباً لردة

فعلها. كان إعجاب السليط بها بلا حدود وأقسم أن يجعلها رباناً

لإحدى سفنه بمجرد أن تبلغ الثلاثين لكن المرض والضعف الذي

انتابه بعد سنوات قليلة جعله يهرع إلى تسليمها سفينة البنفسج كما

أطلق عليها، فكان ذلك إعلاناً مدوياً ضجت به سفن الرئيس ما دعاه

إلى عقد خلوة مع كبار رجالاته وألقى فيهم كلمة مقتضبة، صارمة

وحازمة، مفادها أن بنفسج منذ الآن ستقود البنفسج ومن له رغبة

في عدم قبول ذلك ويود أن يشاكس أو يعترض عليه أن يبدي رأيه

منذ اللحظة ويغادر المكان. دفعهم ذلك الصباح الخريفي وهو

يتجه بسفينته الهرمة الساهرة نحو مرفأ صور، أن يقسموا على الولاء

لبنفسج، وأنه سيراقب أداءهم معها ولو شك في من يعيق قيادتها،

هي التي ستتكفل به، وذكرهم بحادثة الخونة الثلاثة الذين أشرفت

على إلقائهم في البحر. كانت تلك آخر الكلمات التي قالها الرئيس

لرجاله جميعهم لتتولى بنفسج في إثرها قيادة سفينة البنفسج، لكنه

لم يغادر السفينة تلك ويتركها وحدها، ظل زاهداً، مرتدياً معطفه

الثقيل معتكفاً في صومعته مع كتبه وقراطيسه العتيقة، مخلفاً المرأة

التي اجتازت الخامسة والعشرين وحدها تقود سفينة بحجم سفن

سليمان السليط. بعد مضي أيام على قيادتها للسفينة لم يدرك الرجال

معها أنهم سيترحمون على أيامهم مع الرئيس السليط نفسه، فقد

تولت أمرهم لعنة البحر.

«ما الذي يمكن أن تخفيه الفتاة؟ هل هي مخلوقة ساحرة؟

أم هي دجالة؟ كيف استحوذت على السليط وهي لا تزال يانعة لم

تختبر خطوب الحياة وضروبها كما عاشها الرجال الصناديد؟ »، هذه

الأسئلة والأقاويل والإشاعات التي دارت في السر بين المحيطين

بها، رغم الثرثرة التي ما برحت تملأ الأرجاء في الخفاء إلا أن

الخوف كان مسيطراً على الجميع حينما شاهدوا بأنفسهم كيف

تصرفت الفتاة؟ جعلت البعض من البحارة يفضلون وجود السليط

نفسه على حضورها المهيمن على السطح، لا تترك المكان إلا عند

النوم، فجعلت كل رجل مسمراً في مكانه حتى اليوم التالي، أرغمت

الجميع على العمل بدأب مثلما تعمل هي، لم تعتكف في الأسفل،

ولم تنعزل في المقصورة الخاصة بها، كانت دائبة الحركة باحثة في

الأرجاء والزوايا وحالما ترى حبلاً في غير مكانه أو شراعاً متسخاً أو

مياهاً على السطح، أو رائحة أسماك عفنة، تجبر البحارة على العمل

لإصلاحه وإزالة الأوساخ وتنظيف المكان حتى لو كان منتصف

الليل، شيء واحد لم تجبرهم عليه كما كان يفعل السليط هو أداء

الصلاة، لم تهتم بمن يصلي أو بمن لا يصلي، بل إنها فرضت على

الرجال من يريد أن يصلي عليه أداء الصلاة في وقتها وإلا لن يُسمح

له بوقت خارج الميعاد، كان أكثر ما يثير استياءها صوت الأذان حين

ينطلق من أحد الرجال فيهرع البقية وراءه، وكان أشد ما يفزعها أذان

الفجر.

***__



from WordPress دار لوتس للنشر
via IFTTT

Comments

Popular posts from this blog

رؤية معاكسة ضد تيار المقاطعة!