من رواية”يسرا البريطانية”

فصل من رواية “يسرا البريطانية” لأحمد جمعة – القائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد للكتاب بدورتها الحادية عشرة…

حط طائر صغير، بنافذتها عند تلك الصبيحة الرتيبة إثر ليلة ماطرة اشتد على إثرها البرد، لَوَن الأفق، شطر السماء لقطعتين من السحب أخذت الأولى شكل لسان نهر التيمز باللون الرصاصي القاتم، والقطعة الأخرى، شكل ورقة العنب المصفحة باللون الرصاصي المائل للسواد، ولأن الليل ما زال يطبع الوقت بصداه رغم بزوغ الفجر، فقد أيقظها صوت الطائر الشرشور، وذكرها بصوت الحسون الوردي الذي سافر معها من حافة سماء الزبير لأطراف برج الحمام بحلب، خيل إليها أنه يحمل رسالة من جبار الشريف” ماذا يريد أن يوصل إلي هذا الحسون في هذا الوقت المبكر من الفجر؟” تساءلت وهي تهم بترك النافذة التي يتسلل من أطرافها برد “كينغستون” لاحقها الكسل والبرد والشعور بالخمول، ودت لو يكون اليوم إجازتها لتبقى في الفراش تتأمل هذا الطائر الوحيد الضال وهو من فصيلة “الفينش” الانكليزي (finch) الشرشور بلونه البني القاتم، فيما مال لون  ظهره للبني الفاتح وبرز صدره باللون البني الفاتح، أما أسفل بطنه الصغير المدبب فقد اكتسى باللون الكستنائي، بينما اتخذ رأسه اللون الرمادي، وبدا  اللون الأسود يطبع منقاره وجناحيه، تأملته كما لو كان إنساناً راحلاً من موطن لآخر، ربما رسمت من خلاله رحلتها الطويلة من الزبير إلى حلب مروراً بالحدود التركية ثم البحرين ودبي وانتهاء “بكينغستون”، كانت الصورة دقيقة وعميقة سبرت غور الأزمنة كلها وعبرت الأمكنة بمطاراتها وحدودها وحقائب وتأشيرات وما صاحبها من سجون وتحقيقات، اختزلت ذلك كله في دقائق الصباح، الذي رأت فيه هذا الطائر المرهق من أهوال الطقس وكأنه استقر في محطته عند نافذتها في هذا الوقت، شبهت رحلته برحلتها ابتسمت وهي تتأمله وودت لو تمسكه وتمسح عنه التعب.

عادت من الحمام لتزيح الستارة عن النافذة، فوجئت به منكمش وقد التحف البرد الذي لم يرغمه بالتوقف عن الزقزقة، كان صوته يخفت ويعود وكأنه يود التأكيد على صموده “ما الذي يرغمه على البقاء والتشبث بالنافذة؟” ارتدت روب الحمام الأبيض القطني الذي استعارته من الفندق، ونظرت للساعة التي كانت تشير إلى الخامسة وسبعة عشرة دقيقة.

“لن أصل لموعدي بأسفل العمارة على طرف الشارع، سيغضب فلين ويمط شفتيه ويتصنع العتب طمعاً في مزيد من الدلال”

كانت الغرفة تغص بالفوضى، ملابس الليلة الماضية على الأرض، والحذاء الأسود ذي الكعب العالي عند طرف السرير”متى خلعته هنا؟” تساءلت وهي تقذفه بعيداً عن السرير حتى لا تتعثر عليه، ضوء الغرفة ما زال خافتاً، لم ترغب في إضاءة المصباح الرئيسي، لتقنع نفسها بأن الوقت مبكر والليل لم ينته، والفجر ما هو إلا مجرد كلمة لا تنطبق على هذه اللحظة التي تقترب من نزولها إلى الشارع، لم يستغرقها الوقت طويلاً، ارتدت سروال الجينز الأسود الضيق ومعطف الصوف الثقيل وأسفله قميص القطن البني وأسرعت بالنزول وهي تحمل كيس حقيبتها مع كيس النيلون العائد لماركة زارا، وبداخله بذلة العمل وحذاء بدون كعب مع علبة حليب صغيرة، وقبل أن تغادر مسرعة عادت للنافذة وأرسلت قبلة للطائر القابع هناك مرددة بنبرة باسمة رغم شعورها بالخمول والكآبة.

” وداعاً يا بنشي الجميل، أراك في الغد عند نافذة الزبير.

***

بين صباح الزبير وصباح لندن مسافات من الذكريات والأفكار والمشاعر، ترتبط  جميعها بالرغبة في التحرر من الخوف، لم تذق طعم الأمان والاستقرار، لم تعش الشعور براحة البال والاندماج في المحيط أيٍ كان، ولم تغادر القلب الذي ما فتئ يطرق بضرباته كامل جسدها المرتعش من أي حركة تقع حولها، بدأ ذلك من جديد هذا الصباح الذي ما كادت تصل الفندق في لندن وترتدي بذلة العمل حتى سبقتها رسالة موقعة من الإدارة قبل أن تصل وتستلم جدول الغرف وتجر عربة التبديل والتنظيف، كانت الإدارة تتعامل مع موظفيها بالرسائل القصيرة المكتوبة عند أي ظرف مهما كان سطحياً، لذلك لم تولِ الأمر أي أهمية دست الرسالة في جيبها واتجهت لمكتب خدمات الغرف فوجئت بعدم إدراج أسمها في كشف العمل.

” ماذا يخفي لي اليوم من مفاجآت؟”

فتحت الرسالة واندمجت في قراءتها منذ أول سطر، جاء فيها، أنها مطلوبة لقسم شئون الموظفين للتحقيق، من دون ذكر الأسباب، وحتى ذلك الحين هي موقوفة عن العمل، خرجت لبهو الفندق ورأت الوجوه في الصباح على طبيعتها الرتيبة الباردة، الخالية من أي تعبير، كما هو الحال في كل الصباحات المماثلة قبل أن تدب الحركة في المكان بالنزلاء والزوار، تبادلت التحية مع من صادفتهم في الممر وهي تتجه نحو الردهة الخلفية، وعند الواجهة الخارجية للفندق من الخلف وقفت من دون الاكتراث للبرد والهواء المتدفق عبر ممر خارجي ضيق، يفصل بين الفندق من الخارج وموقف سيارات الموظفين، أشعلت سيجارة على غير عادتها في الصباح الباكر قبل أن تتناول وجبتها السريعة، وسرحت بفكرها نحو ثغور عديدة من الأمكنة المتعددة التي مرت، لم تشعر بالبرد يلفح صفحة وجهها المتجمد، غاصت في مشاعر متلاطمة كموج شديد التدافع وسط رياح عنيفة تلعب به، “سأفصل، ماذا سأفعل حينها؟” كعادتها بدأت سلسلة الذعر مع تدفق الأفكار السلبية تهاجمها وأخذت المشاعر السوداء التي اختفت لبرهة تنتعش إثر الرسالة التي تلقتها للتو واستدعتها للتحقيق.

“ماذا لو صرفت من العمل؟”

لا تعرف في حياتها غير الأسئلة، تطرحها على نفسها وتنصرف، لأنها لا تملك الأجوبة، تمضي يكتنفها الذعر كلما مسها القلق من فقدان العمل أو إلغاء تسفيرها من المكان الذي أوت إليه، في كل مرة تغادر المكان حتى ولو كان خيمة على الحدود، تصعق وتضطرب وتشعر بأنها ضاعت للأبد، في كل مرة تقترب من الذهاب عن المكان الذي تعمل به أو تنام فيه، تحس بأن الدنيا ضاعت منها، وعندما تجلس على حافة اليأس لدى تراكم الأفكار السلبية من كافة الجهات تشك بأن الله تخلى عنها، حالها هذا الصباح مع الرسالة التي تلقتها للتحقيق معها، وهي تخمن منذ اللحظة بأنها الرسالة التي تسبق التخلي عنها، دارت هذه الأفكار خلال الدقائق السريعة التي دخنت فيها أول سيجارة صباحية، مضغت على أثرها قطعة علكة ثم دلفت للداخل مسرعة نحو شئون الموظفين وسؤال آخر جديد يلاحقها “هل لفلين علاقة بالموضوع؟”



from WordPress دار لوتس للنشر
via IFTTT

Comments

Popular posts from this blog

رؤية معاكسة ضد تيار المقاطعة!