“عناقيد الثلج” رواية مدينة المحرق القديمة
مقطع من رواية “عناقيد الثلج” ثمرة هذا الخريف وتصدر قريبًا…
– لا أفهم خوْفي وأشعرُ بتهديدٍ من الحياة، من كلِّ شيءٍ، أخشَى أن تتَركيني، أهابُ أن ينْضُبَ المال الذي معي ولا أملكُ عمل أقوم به، أخاف العودَّة للغوصِ ثانية، أخاف من وجودِ ميتٍ دُفنَ هنا بصَحنِ الدار، حتى أننا لم نُعْلِم سكان الحي ولا أحدٌ يعرفُ بأنَها رحَلتْ…أخاف
– كفى إدريس.
انْزلَقتْ من فوق السرير ووقفتْ أمامه، كان الليلُ ساكنًا والهدوءُ يسود، والعِتمة تخفي كلّ شيء في الغرفة إلا من ضوءٍ ضئيلٍ من بقايا شمعةٌ تكادُ تذْبَل، تنهَّدتْ وحدَقتْ فيه وهي تحمل صينية الطعام وتضَعها على الفراش وتجلس على طرفه… حَدجَتهُ بسهمٍ بنظرةٍ حادة وقالت بنبرةٍ صارِمة.
– انْظر لهذه الصينية من الأكلِ الذي ظلَّ طوال الوقت بالأرض، هل تراهُ؟ لقد أمْضيْتُ حياتي كلَّها منذ وُلدتُ وحتى الساعة لا أخافُ من شيءٍ سوى أن افْتقدَ هذا الطعام…كلّ ما أخافنِي طوال عمري هو الجوع، لم أخْشَى حتى الله وفَعلتُ كلّ ما يُغضِبهُ ولكني خشَيتُ يومًا يأتي من دونِ طعام…وحدثَ ذلك كثيرًا، قضيتُ أيامًا بلا كسرةِ خبز، كنت التهم بقايا ما كان يُرمى بزبالةِ بعض الجيران دون علمهُم ولم أجدَّ من أتوَسَّل لكي ينقذني من الجوع، لا تَسأل ماذا فعلتْ؟ أسْألَنِي كم كان الخوفُ يأكُلَني حتى كِدتُ أتوَّفى من الخوفِ قبل أن أفْطسَ من الجوعِ…إدريس طالمّا أمامُكَ هذه الصينية من الأكل لا تخشَى من شيءٍ.
لْملَمتْ شعرها وعقَصَتهُ ووضَعتهُ خلفَ رأسها واسْتدركتْ.
– عندما كنا نجوع منذ طفولتنا والخوفُ يتَعقَبنا، التَصقَ بنا الخوفُ مع الجوع، حين تُحدثُني عن مدينة المحرق، سأقْرِنُ مدينة المحرق بالجوعِ، كان يُفترضُ أن تُسمى بمدينةِ الجياع، اما الذين يجِدون ما يأكلونهُ فيها فهم محظوظون، وأما أمثالُنا فقد خُلِقوا ليخافوا من الموتِ جوعًا…كانت تمُرُّ أيامٌ طويلةٌ بالشتاءِ، تغرقُ فيها المدينة بالمطر ونُحْبَسُ بالأسابيعِ، لا نخرجُ إلا إذا غَرقَت بيوتنا بالمياه، لا نجدُ الطعام ونكْتفي بالصومِ وتخَيَّل يَهِلُّ علينا شهرُ رمضان ويُطالِبُنا الله بالصومِ شهر…هههه…كنا قبْلَها صيامٌ ولا حاجة بنا لأمرٍ إلهي لكي نصوم…هذه المدينة تكادُ تصوم طوال السنة، صيفٌ وشتاءٌ وخريف، لا نجدُ ما يسدُّ رمقُنا سوى بقايا تكفينا لكي نتجاوْز الموت…هل ما زِلتَ إدريس حتى الآن خائفٌ؟ لا تخفْ إلا من الجوع.
هبَطَ من فوق الفراش، جلسَ على السجادةِ وأسْندَ ظهرهُ على الحائط، شعرَ ببرودةِ الجدار، فأبعد ظهره، حَملتْ الصينية ووضَعتها أمامهُ وجاءتْ بالشمعةِ المُشْتعلِة التي أوْقدَتها للتوِ وحطتها بقربهِ وجلَستْ إلى جانبهِ وقالت.
– تعشَى وسيزول خوْفُك.
بعد أن تناولا الطعام، أخرَجتْ صينية وطبق العشاء ووضعتهُما خارج الحجرة وعادتْ تحملُ إناءٌ معدني به الماء وخرْقة قماش وضعتها امامهُ ليغتَسل ويُجفَّفَ يديه، ثم خرَجتْ ثانية وغابَتْ لفترةٍ وعادتْ ومعها رَزمَة فحم وضعتها في المَنقلَة وسَكبتْ فوقه الكيروسين ثم أشْعلتْ النار، فوق ما تبقّى من جمرٍ لم يتَحوَّل لرمادٍ بعد ليشْتَعل الفحم من جديد، وتخْتنقُ الغرفة برائحةِ الدخان الذي تصاعد وأحدث سَحابة لوهلَةٍ وجيزة ثم تلاشَى وظلَّت رائحةُ الفحم المُحترق تطْبع المكان.
– سنَدفَأ لننام حتى اليوم التالي، فقد بذَلنا منذ الأمس طاقتنا كلَّها بالدَفنِ والتنظيف، كان يومٌ طويلٌ للغايةِ.
عندما صعدا الفِراش، وإثر محاولة ثانية مسْتمِيتَة بذَلَتْها معهُ جوري لتُعيدهُ لوَهجِ الشَبقْ الذي كان عليه، أخْفقَ مرّة أخرى وتَغَطى بالبطانية، ليُخْفي وجههُ عنها، ترَكَها سارِحهً ترْنُو لسَقفِ الحجرة بذهُولٍ كمّا لو كانت تُحدقُ بسماءٍ تكْسُوها آلاف النجوم.
from WordPress دار لوتس للنشر
via IFTTT
Comments
Post a Comment