من رواية” القرنفل التبريزي- تجليات أبو العلاء المعّري وخليلهُ المتعري”
تصدر قريبًا
من رواية” القرنفل التبريزي- تجليات أبو العلاء المعّري وخليلهُ المتعري”
– صادفتُ بحديقتي ذات مرة، وقبل أن أفقد بصري وأحرمُ من ابنتي، وأُسْلَب من زوجتي، وأُجَرد من صبيتي، ثم أُنْفى من عالمي، رأيت قرنفلة حمراء داكنة وكأنها فتاة متوردة البشرة، قطفتها وندمتُ لوهلةٍ حين أبصرتها حزينة بنقيضِ ما كانت عليه وهي بغصنها في الحديقة بين أطياف الورود الشقيقات بالشجرة، فقدتُ لوهلةٍ بهجتي بها وهي بغصنها، فسعيتُ لتعويضها بأن وضعتها بإناءٍ ورفدت قاعه بالماء ليسقي عودها آملًا أن تعيش ساعات أو أيام، أتأملها، ولشدّة هوسي بها، حتى كدت أفقط تركيزي كلما تأملتها وهي ترمقني وكأنها تلومني على نزعها من غصنها بالشجرة، بعد يومين أو ثلاثة، تأملتها، فإذا بيّ أُفاجأ وقد صعد الماء من أسفل غصنها، إلى أعلاها وطفقت قطرات الندى تلوح على أوراقها، شعرتُ ببهجة غامرة، بأنها بدت ترتوي من الماء. انصرفتُ عنها وكليّ غبطةٍ بإحيائها، ومن شدّة لهفي عاودتها بالنهار التالي، فإذا بها يابسة، وقد انفطرت أوراقها وتساقطت وبدّت وكأنها لم تكن موجودة بالحياة، ولكن المفاجأة التي صدمتني، بأنها رغم موتها، كانت تفوح منها رائحة زكية، أشدّ مما كانت وهي نَضِرةَ، حية ترزق. أدركتُ ساعتها، أن قطراتِ الماء التي كانت تطفح بها أوراقها لم تكن سوى، دموعها الأخيرة وهي تودعني على رعايتيِ لها، فهمتُ منذ ذلك الحين، المغزى من الحياةِ والموت.
الصمتُ عادة الفلاسفة والحكماء، لم أصادفَ بحياتي كلها صمتٌ كهذا الهجوع الذي خَيَّم على هذا الخليل، ما أن أنتهى من سردِ روايته عن الوردة الذابلة، ومغزاها، حتى غرقَ في صمتٍ أشبه بالردى.
– ماذا استنتجتُ من مغزى خليل وأنتَ تتأمل هذه الوردة بحالتيها؟
لم يجبني بالفور، سمعته يَنْقرُ بأصابعه على خشب منضدة بالجوار، وفيما اجتاحتني من ناحيتي، نوبة سعال مباغتة، كَفّ عن النقر على الخشب وعاود التنفس.
– لا مغزى عميق من هذه القصة، كثيرٌ منا يظنّ في بعض القصص، أن وراءها دلالة ما، وبعضهم يضخمها إلى آية. أنها مجرد قصة حزينة لوردةٍ عابرة، حتى لو ظلّت في غصنها وعلى شجرتها فمصيرها الفناء، هي والشجرة برمتها. حزنتُ فقط لأنها ذبلّت وهي عندي.
– هذا هو المغزى، لا تحتفظ بالشيء معك حتى يذبل. دعهُ يموت في مكانٍ بعيد، حتى لا تحمل وَزْر ذنبٍ أنت بغنى عنهُ. ينطبق هذا على الحياةِ ذاتها.
– المجدُ للوردة!
– المجدُ للقرنفلة.
وَدْعتهُ، احتضنني قبل أن ينصرفَ وهو بين حائرٌ، وموقن، فشعرتُ بجسمهِ النحيل مثل عودٍ يابسٍ، كان ضعيفُ البنية، متوسط القامة، ناتئ العظام ودافئ البشرة، يشبهني، ولا يشبهني! أنهُ أعمى مثليّ، وذو عقلٍ، أخمن بأنه سيقودهُ لأمرٍ شائك.
– هل من نصيحة أبا العلاء؟
“لَقَد أَسِفتُ وَماذا رَدَّ لي أَسَفي، لَمّا تَفَكَّرتُ في الأَيّامِ وَالقِدَمِ. في العُدمِ كُنّا وَحُكمُ اللَهِ أَوجَدَنا، ثُمَّ اِتَّفَقنا عَلى ثانٍ مِنَ العَدَمِ. سِيّانِ عامٌ وَيَومٌ في ذَهابِهِما، كَأَنَّ ما دامَ ثُمَّ اِنبَتَّ لَم يَدُمِ“
from WordPress دار لوتس للنشر
via IFTTT
Comments
Post a Comment