يسهل تدمير الإنسان لو تحول لإله!
من رواية حرب البنفسج
احمد جمعة
رواية
حرب البنفسج
لا تصدقوا شيء في هذه الرواية الخرافة، أنها الحقيقة،
فقد يسهل تدمير الإنسان لو تحول لإله
احمد جمعة
ماذا ينفع الفجر إذا لم نستيقظ؟
جورج كريستوف لشتينبرغ
توطئة لبنفسج
من هي بنفسج؟ ساحرة أم ثائرة؟ من أين جاءت؟ وإلى أين ستمضي؟
الطفولة عادة ما تولد مع انزلاق المولود لوهلة خاطفة من الظلمة للنور، من الماء إلى اليابسة، حيث ينمو في مشيمة مياهٍ دافئة ثم ينزلق منه للخارج مع أولى قطرات الضوء ليشكل من حوله صدمة الولادة، من عالم التشكل لعالم الولادة الحية، تشرق الولادة من قلب عالم سري غامض لا يدركه الكائن الحي الذي عاش في سديمٍ أشبه بالثقب الأسود، يولد، يعبر الولادة، يخرج للنور، تبدأ خطوات الطفولة الأولى، يعيشها وتعبر معه بعفوية. لا توجد طفولة مخطط لها ولا توجد طفولة تتلبس الطفل، تنشأ الطفولة من الهواء والبحر والزمان والمكان، تكتشفها وتعيشها من دون أن تخطط لها، من عالمٍ صغير محدود كنا نظنه العالم كله، من هذه الفجوة الغامضة تُفتح نافذة بنفسجية نظنها العالم. من هذه الثغرة أطلت طفلة مهمشة شرسة تُدعى بنفسج قبعت قسراً دون إرادة بقاع الرق والعبودية، ثم استيقظت فجأةً.
هل سبق وحدث قبلاً أن رجع إنسان من الموت؟ هل عاد أحد حياً يرزق عقب رحيله؟
( 1 )
ولاية صور
من: 1868
لفظت شمس أغسطس المستعرة أنفاسها الأخيرة ونزعت عنها خيوطها الذهبية المتهدجة تحت أفق البحر الراكد كسجادة فارسية قديمة بالية انسلت أطرافها وبدت كخيوط المشط الخشبي المتهرئ، أطلت مدينة صور الساحلية من بين أنياب الغيوم السوداء تتنفس الهواء الساخن عبر رئتيها المنتهكتين من هول الحرارة الدبقة ورائحة البحر وعفن الأسماك النافقة المتكدسة على طول الساحل الذي بدا يعج بالسفن الخشبية العملاقة، وقد خلت من الحركة ولاحت كأنها مهجورة منذ أزلٍ غير محدود. كان الصمت قد جثم على المدينة المسترخية كناقة هزيلة بركت على الأرض تلفظ لعابها مستسلمة لنهايتها المحتومة. على بعدٍ من رأس المرفأ الذي أطبق عليه الوجوم، انتصب ضابط البحرية الملكية البريطانية الرئيس داود لنج على سدة المرفأ الخشبي المطحون كالعجين بفعل شدة تدفق الموج حتى أعلى حافته الصخرية، يحدق في مدينة صور البحرية الرمادية اللون ومن خلفه أحاط به عدداً من حاشيته بينهم كل الأجناس، منهم الانجليزي ذو البشرة الفاقعة البيضاء كالحليب والعماني بلون التمر السعودي كالذي تراكمت أكياسه البنية اللون من الخيش على رصيف المرفأ البالي، ينتظر من يشحنه، وهناك الزنجباري الأفريقي اللون وغيرهم ممن بدوا بمظهر الذين أصيبوا بالكساح لشدة هزالهم، فيما آخرون ممن التفوا حوله وتحلقوا كالذباب في المكان بدوا أشبه بالجبال لقاماتهم الباسقة كعجائز النخيل ذوات الأعمار المديدة. اكتظ المرفأ بالصخب ودوي العربات التي تقودها الحمير ويعلوها رجال حفاة يغلفهم الهزال وتكسوهم أسمال بالية، ينزف منهم العرق ويسيل على وجوههم حتى يكاد يغرق عيونهم ويطبق على وجوههم العابسة ويغطي لحاهم الملبدة بالزيت. علت أصواتهم المبهمة بلغاتهم المتباينة وهم ينقلون المؤن من السفن الراسية على بعد مسافات طويلة عبر المكان الهادئ إلى سطح الرصيف الحجري وبعضهم ما يكاد يفرغ العربات حتى يتعثر في الحفريات التي غزت الرصيف على إثر تشقق حجارته القديمة المتكلسة بسبب المياه والرطوبة وعفونة السوائل المختلفة المتدفقة من البراميل وصناديق المعدن بلونها الأصفر المتجعدة بعضها بفعل التكدس.
على تلك الرابية الخشبية المطلة على واجهة البحر المستقيم على مدى البصر كبساطٍ أزرق اللون لا نهاية له، وقف بهيئة متيقظة كأيقونة من الرخام الصلب الرئيس داود لنج ضابط البحرية الملكية البريطانية، بدا شامخاً كالحاكم لولاية من ولايات الخليج السحيق والمترامي الأطراف، يتطلع للبعيد متصنعاً الحكمة والوقار بقامته الفارعة الطول ورقبته القصيرة وهي تتناقض مع هيكله المسلوق، بدا رأسه الكبير المزروع على جثته يترنح عندما يحدق بعينيه الواسعتين بلونهما الأزرق كلون البحر الذي يتأمله، فيما راحت نسمات الهواء الساخنة الخفيفة التي تهب بين فينة وأخرى من جهة الجنوب تدلل شعيرات رأسه البرونزية اللون المتبقية من الأطراف، بدت جبهته منبسطة ومرتفعة قليلاً عن مستوى حاجبيه العريضين، كان إذا تحرك في مكانه ببزته العسكرية الدالة على البحرية الملكية يبدو لوهلة كالقائد الفذ الذي يحاول أن يبسط سلطته على المكان، إلا حين يُصدم وهو يطرد الذباب عن وجهه، فيبدو كالفزع من هجوم مباغت، فتزول سمات الوقار المفتعلة عندها يشير بأصبعه الطويل الملتوي للأسفل بتوجيه أوامره لمرافقيه من جنود البحرية الملكية البريطانية الذين بدورهم يقذفون بتلك الأوامر في وجوه العمال والحمالون الذين لا يترددون في تنفيذها بسرعة من يريد إثبات الجدارة في التنفيذ أفضل من غيره، فيتسابقون في السرعة والحركة للبرهان على وفائهم في العمل، كانوا يقفزون ويمخرون الرصيف وعيونهم متطلعة نحو جنود البحرية الانجليز لمعرفة انطباعهم عن تفانيهم في الأداء.
****
حدق داود لنج بمنظاره الطويل ذو الغلاف الأسود المعقوف من الأمام، تجاه السفينة الحربية القادمة من وراء الأفق للمرة التاسعة وهو يترقب دنوها من الساحل، أمله الوحيد أن يلتمس قبل غيره من الجنود والضباط اسم السفينة التي لم يفتر باله حتى أدرك عنوانها (اوسبري)، وما أن تبين له اسمها أخيراً، غير مكانه وتبعه عدداً من جنود البحرية ثم أشار لأحدهم بالاقتراب منه، كان الجندي منتصباً بفخرٍ عند صخرة عملاقة سدت طريق الممر الخشبي، بدا نحيفاً في زيه العسكري الفضفاض الرث أكبر من حجمه الطبيعي، غارت عيناه الصغيرتين في رأسه المدور كالصحن، فيما لاحت يده اليمنى تفرك ما بين أسفل فخذيه وهو يهرول تجاه داود لنج، وحالما استقام أمامه، أسر لنج في إذنه اليمنى الصغيرة بضع كلماتٍ فجرى الآخر بكل طاقته نحو غرفة صغيرة أشبه بالكوخ مبنية من ألواح المعدن والخشب، برهة وعاد مسرعاً وخلفه مباشرة مشى بخطوات متأرجحة بطيئة أحد شيوخ صور يدعى الشيخ قيس بن خزعل اليمامي وقد ارتدى دشداشةً صفراء داكنة اللون، ذات عنق مستدير، يحيط بها شريطاً ازرقاً مخططاً بالأسود يختلف لونه عن لون الدشداشة وقد تدلت منها على الصدر وصلة الفراخة، بدت الدشداشة الفاقعة الألوان واسعةً على الجثة التي بداخلها، وهي نحيفة برز منها بطناً منتفخاً تهدج عن الجسد حتى كاد يخرج من الدشداشة، ظهر البطن مدور وكاد يصعد للذقن، يفوق انتفاخ امرأةً حامل في شهرها الأخير. حين وصل الشيخ قيس بن خزعل اليمامي عند قدمي الرئيس لنج الذي كان مشغولاً بحمل منظاره وراح يحدق في السفينة التي اقتربت ولمحها تجر ورائها سفينة خشبية كهلة وفسيحة الأرداف. وقف الشيخ منتظراً الرئيس لنج يخفض منظاره بينما جمد على بعد منه الجندي الذي رافقه. حين طأطأ الرئيس المنظار للأسفل بدت عليه سمات النصر بصيده الثمين للسفينة الشراعية التي بدت كسلحفاة كسيحة ذات بنية قديمة ملطخة بالسواد ولاح شراعها الأبيض في الأصل وقد تحول إلى لون السخام.
نفض بيده عن طرف سترته الحربية من غير أن يكون ثمة شيئاً عالقاً بها، فقد اعتاد هذه الحركة كلما أراد أن يصدر أوامره السامية رغم علمه بأنها أوامر صادرة له من جهة أعلى منه لكنه أدمن على الإيحاء لمن حوله بأنها صادرة عنه، كانت هناك ذبابة في الجو تلاحقه وتمنعه من إصدار فرمانه المتوقع بمباشرة الوقوف على استعداد للتعامل الحربي مع البغلة الأسيرة التي اقتنصتها سفينة البحرية الملكية وأصبحت على مقربة من المرفأ، فاض به الغضب فجأةً على مواظبة الذبابة ملاحقته حتى بادر أحد الجنود الواقفين بقربه وكان قصيراً وبطيء الحركة ويحمل بيده صحيفة أوراقها متهرئة لقصف الحشرة اللئيمة في الهواء فما كان من الآخر إلا أن صفع الرئيس في وجهه، حينها علت صيحة في الجو أطلقها الرئيس لنج آمراً الجنود باقتحام السفينة الأسيرة متجاهلاً صفعة الجندي بالصحيفة رغم محاولة الآخر إبداء أسفه.
كتلة بشرية محشورة بين الأخشاب وصفائح النحاس قوامها أعداداً من النساء والرجال محصورون داخل الباخرة الأسيرة جلهم سود البشرة، نحاف البنية، يحدقون حولهم بخوف تعريه عيونهم الزائغة، فيما نزعت عنهم ملابسهم الخارجية وظل بعضهم ملتصقاً بجدار الباخرة كأنه يخشى عورته، كانت النساء خجلات من رؤية جنود البحرية الملكية يقفون منبهرين أمامهم فيما راح جنود آخرون يجرون طاقم الباخرة للخارج، كان بعضهم مقيداً بالحبال وبرز بينهم ما يبدو عليه ربان السفينة يقاوم الجنود فيما راح آخر يسحب أحد البحارة للخارج فسقط على حافة اليابسة. كان الوجوم يخيم على وجوه الأسرى من الرق فيما سيطر الفزع على امرأة في العشرين من عمرها كانت منزوية في ركن من الباخرة محاولة ألا تخرج وجهها، برز أحد الرجال منكساً رأسه للأسفل كأنه يلعق الأرض بلسانه بينما توجه اثنان من الشبان نحو الجنود، تعالت أصوات بعض النساء يولولن وراح الرجال يتلفتون حولهم وكأنهم يفرون من عيون الجنود غير مدركين مصيرهم بعد أن وقعت السفينة في قبضة البحرية الملكية التي كانت الأوامر قد صدرت لها بالتصدي لتجار الرق بتنسيق مع سلطان عُمان. كانت السياسة البريطانية تقوم على ملاحقة هؤلاء التجار الذين دأبوا على اصطياد الرجال والنساء من بعض القرى النائية على أطراف الحدود بين اليمن وعدد من المدن الأفريقية ويتم الاتجار بهم في المنطقة حيث يوزعون على السعودية والبحرين وبقية الإمارات في المنطقة. تولت السفينة الملكية عملية أصياد البواخر المتاجرة بالرق وكانت مهمة الرئيس داود لنج الإشراف المباشر على هذه المهمة التي يتم من خلالها وقف صيد البشر أو التبادل بينهم أو مقايضتهم بالأرض وغيرها من المواد، كما يتم تبادلهم كهدايا بين تجار الرق بين المشيخات في المنطقة، بدت هذه المهمة في طابعها أنساني لكنها ظلت محدودة بسبب عدم جدية السلطات البريطانية في لندن على توسيع العملية لتشمل الرق بشكل عام، فقد اشتكى الرئيس داود لنج ذاته من تخاذل قيادة البحرية في تنفيذ أوامره تاركين المهمة للصدف، مركزين جهودهم على دعم سلطاتهم في المنطقة، كانت سفن القرصنة وتجار الرق تجول في مياه الخليج دون أن تواجهها البحرية الملكية إلا عندما يقوم هؤلاء باستفزاز البحرية أو عندما يهدد هؤلاء القراصنة الحكومات المحلية ويتم رفع الأمر مباشرة للمقيم السامي في الخليج بالتنسيق مع لندن.
وقف الرئيس في واجهة السفينة الأسيرة بعد أن سلمتها قيادة السفينة الحربية أسبري ثم ابتعدت في مياه صور، كانت سفينة الخفر التي اقتادت البغلة الأسيرة بعد أن فصلتها عن السفينة أسبرى على مسافة من المرفأ قد غادرت هي الأخرى وتركت المهمة للرئيس لنج الذي استدعى عدداً من رجال الشرطة المحلية الذين اصطفوا أمامه على الرصيف فيما راح يتطلع نحوهم بنظرة بدت لهم أقل أهمية من نظرته لجنوده الانجليز التابعين للبحرية الملكية، لاحت ملابس هؤلاء الشرطة الملحقين بدائرة سلطان عمان، مهلهلة ورثة وكأنها الأسمال الوحيدة التي يكتسون طوال الوقت، ولشدة الفرق بينهم كانوا يقومون بتلبية طلبات الجنود الانكليز كأنهم عبيداً في خدمتهم وهذا ما أشعرهم بالدونية وقد حدث ذات مرة أن تمردوا على الأوامر فأطلقت عليهم النار.
حينما بدأ إجلاء الرق من السفينة الجلفة فاحت راحتهم واكتظ الساحل كله بالعفونة، كانت الحرارة الشديدة الوطأة في أوجها والعرق راح ينزف عن الأجساد والتصقت ملابسهم وبانت أجسام النساء كالعرايا مما اضطر الرئيس لنج وبعض الجنود لسد أنوفهم فيما كشر رجال الشرطة المحليون بوجوههم، كانت الرائحة تنبع من الملابس والأجساد وراحت بعضهن تغطين أجسادهن بقطع قماش بالية فقدت ألوانها الطبيعية، كان الرجال بلحى ووجوه خشنة رغم وسامتهم، فيما بدت النساء والفتيات أقل رائحة من الرجال وبدا على بعضهن النظافة وهذا ما يفسره البعض من قيام تجار الرقيق بفرز النساء والفتيات واغتصاب بعضهن والاحتفاظ ببعض منهن كعشيقات. بدأ الجنود بفرز الرجال عن النساء فيما بادر جندي آخر بحصر أعداد الجميع وقد بلغوا سبعة وثلاثون فرداً، خرجوا جميعاً من السفينة إلى الرصيف الدبق، أصدر الرئيس داود لنج أمراً بحجز السفينة وتم اقتياد طاقمها تمهيداً لتسلميهم للسلطة المحلية التي عادة ما تقوم بالإفراج عنهم مقابل فدية مالية ليعودوا مرة أخرى للمغامرة.
****
from WordPress دار لوتس للنشر
via IFTTT
Comments
Post a Comment