مقالة رائعة اعتز بها، عن روايتي “بيضة القمر” للصديق ابراهيم نصر الله.

مقالة رائعة عن روايتي “بيضة القمر” للصديق ابراهيم نصر الله اعتز بها…

نصر اللهبيضة القمر

رواية (بيضة القمر) لأحمد جمعة

خيال جامح يرصد تحولات الروح والمجتمع

إبراهيم نصراللـه

كان ميلاد (خَلَف الفرض) في رواية (بيضة القمر) للكاتب البحريني أحمد جمعة كافياً لخروج عالم بأكمله من براءة كاذبة تستَّر وراءها زمنا طويلا، وكان موته الشفاف في النهاية أشبه بحلم ينشد براءة أخرى، من الصعب أن تنمو ما دامت جذورها تمتد إلى ماض لا يشبه تطلعها.

وبين الصدمة الأولى والحلم الملتبس الأخير تفترش الرواية أحداث بالغة القوة والقسوة، يرفعها إلى ذراها خيال وحشي.

ورغم أن (بيضة القمر)، الصادرة في بيروت عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في مائتين وتسع وثمانين صفحة، هي الرواية الأولى لأحمد جمعة لكنه جاءها معززا بخبرة كبيرة في كتابة المسرح، بدءا من شهرزاد الحلم والواقع، الصعود إلى المنحدر الرمادي، أبو نواس يرقص الديسكو، فنجان قهوة للرئيس، وانتهاء بنصين مسرحيين قصيرين أخاذين : الفراولة المجنونة، وذلك النص الذاهب في عبثية خلاقة حول علاقة رجل وامرأة في أجواء حرب الخليج الثانية، وقد نشر في مجلة أفكار الأردنية قبل سنوات، كما أن علاقة أحمد جمعة بالسينما والتي أعطتنا ذات يوم كتاب (سينما التحولات ـ رؤية في سينما يوسف شاهين) وانشغالاته الفكرية في كتابيه كرة الرماد والديمقراطية الإلكترونية، مهدت الطريق، ليس لولادة (خلف الفرض) الأعجوبة بل لولادة رواية ذات مذاق خاص.

لقد ذهب أحمد جمعة إلى النقطة الأكثر إبهارا وغرابة وطزاجة، ونعني هنا تلك المرحلة العجيبة التي ينتقل فيها المجتمع من طور إلى طور، ويمكن أن نستعير عنوان كتابه عن يوسف شاهين ونحن نصف روايته هذه فنقول إنها رواية التحولات.

مثل هذه المرحلة تبدو نادرة في حياة المجتمعات، كما هي نادرة في حياتنا نحن كبشر، ولذا ليس من الممكن كتابتها من قبل الكاتب الواحد سوى مرة واحدة، لأن الرجوع إليها يبدو مستحيلا، تماما مثل الكاتب الذي يذهب ليعتصر تحولات طفولته في عمل روائي أساس، يصبح من الصعب عليه الرحيل إلى تلك المرحلة في عمل آخر.

إننا، إذن، أمام عمل يكتب مرة واحدة لا غير.

من هنا تكمن خطورة رواية (بيضة القمر) في مسيرة كاتبها، وإن كانت المرحلة ذاتها قابلة لأن يذهب إليها كتّاب آخرون ليعايشوها عبر تجاربهم التي تحسسوا بها الحياة آنذاك، إذا ما أتيح لهم الأمر.

لقد ظلت مراحل التحوُّل أثيرة على قلب الرواية في عالمنا العربي والعالم، لأنها تصوِّر ذلك الانتقال الرهيب عبر القسوة والحرمان وفقدان الدليل والبراءة وصولا إلى عتبة تاريخ جديد ومعايير جديدة.

تبدو الأحداث هنا أكثر تعقيداً من أن تشبَّه بتغيير الثوب أمام العتبة التالية، لأنها في الحقيقة أقرب إلى تغيير البشر أنفسهم، سواء أولئك الذين أتيح لهم بمعجزة براءتهم أن يتجاوزوا العتبة نحو العالم الجديد أو المرحلة الجديدة، أو أولئك الذين كان لا بد أن تتخفف الطريق من ثقل خطواتهم، وينتهون موتى.

في هذه المساحة الشاسعة من شبه الحياة، تتحرك شخصيات (بيضة القمر) تولد قليلا وتموت كثيراً، ويمكننا أن نلاحظ بيسر أن الموت، المادي والمعنوي هو الذي يفترش الرواية، أما الميلاد الحقيقي فهو ليس أكثر من بشارة يحتضنها رحم (نعّوم) التي تتحسس بطنها في المشهد الأخير من الرواية حيث (فوجئت بالمكان نظيفاً والمياه صافية زرقاء رغم هول الموج) وتهمس لنفسها بفرح (خديجة أم سيار؟)

هذا الصفاء لا يحتل في (بيضة القمر) سوى أسطر قليلة لا غير، في صفحتها الأخيرة، أما باقي صفحاتها الـ (289) فهي غارقة ومنذ السطر الأول في أجواء مرعبة لا مكان لنسمة هواء واحدة فيها.

وبقليل من التأمل يمكننا القول إن هذه الأجواء هي أشبه ما تكون بمرآة هائلة لتلك الشخصيات. ولذلك ليس ثمة مسافة بين الخشبة وذلك الذي يتحرك فوقها هنا، إنهما في الحقيقة قطعة واحدة. وحين تلوح إشارة صفاء من البشر ممثلة بنعوم، لا يبخل الروائي على هذا الصفاء بمنحه ساحلا نظيفا ونقيا في السطور الأخيرة، لكنه لا يذهب بعيدا في تفاؤله بحيث يقبل أن يلوي عنق التاريخ.

 يبدأ احمد جمعة روايته تاركا المجال لخلف الفرض بنفسه أن يصف لحظة ميلاده، ولعل إدراك الشخصية لواقع كهذا جزء أساس من نظرتها إلى نفسها في مرآة كلماتها هي، لا تلك التي يسردها آخر عنها: (ولادتي بدأت ذات قيظ شديد الحرارة، امتلأ فيه الأفق بغبار مشوب برطوبة لزقة، وبرائحة عفنة تنبعث من جهة البحر المحاذية لمقبرة النفايات التابعة للبلدية، حيث اعتقد الذين أشرفوا على ولادتي أن خديجة بنت غانم أنجبت كتلة لحم عفنة ميتة من المحتم دفنها مع الأبقار والكلاب الميتة، أما القطط فترمى حية للكلاب الجائعة..)

إن قراءة سريعة لهذا المقطع، وهناك الكثير الكثير غيره في جسد الرواية، يشير، ومنذ البداية إلى أن (خلف الفرض) كان يدرك موقعه تماما ككتلة لحم عفنة ميتة، وسنحس دائما بأن هناك (رجل ميت يمشي) لكنه يبحث عن ثأره في كل ما يمكن أن تطاله يداه، أو خياله الوحشي القادر على اختراق الأسوار والملابس والحجب واقتياد النساء إلى (عالمه السحري مخترقا الأكوان والعوالم السديمية بداخلهن ليصبحن فيما بعد رهائن في قلعته المسحورة باللذة والوحشية) ولا يختلف الأمر مع خديجة، أمه، التي تنتقم بطريقتها الخاصة (ليلا) من كل النسوة اللواتي يقمن بإذلالها وهي تعمل في بيوتهن (نهارا) عبر استدراج أزواجهن، ومن المفارقة هنا أن جسد خديجة الذي يعصف به الشقاء هو الذي يرممه الشقاء أيضاً فيعطيه هذا القوام المشدود اللافت الذي لا تتمتع به نساء مترفات بتدللهن وليونتهن.

وإذا كان الجو المحيط هو ما يمرئي أحوال البشر وسلوكهم، فإن خيال خلف الفرض والذي يعيشه بسرية قادرة على انتهاك كل شيء والتخفي بواجهة البلاهة، هو ما يمرئي الحياة السرية الفاحشة التي يعيشها سيار (والده) وهو يتستر بواجهة الورع. ولذلك كان من المنطقي، فيما بعد، أن يرث الابن كل ما يملكه الأب من قوة قادرة على سلب النساء عقولهن واطلاقهن من مكامن أجسادهن إلى غير رجعة، وتلك الهيبة التي يسيطر بها على الأرواح وتسخيرها لخدمته. كما يمكننا أن نلاحظ أن خديجة نفسها صورة لمولودها: (ولدته امرأة لزجة الوجه تدعى خديجة الفرض، وتستمد هذا اللقب من رجل مجهول لا يعرف أحد من يكون؟ أو من أين جاء؟)

إن أجمل ما فعله أحمد جمعة أنه لم يدع هذه الشخصيات تذهب إلى ما لا نهاية في سوادها أو بياضها، فقد ظل شيء من البياض أصيل في هاتين الشخصيتين وسواهما، فقد أبقى على شيء من الورع الحقيقي وشيء من البلاهة الحقيقية، لكنه وهو يفعل ذلك ترك المحيط العام هاجعا في الصورة الخارجية لهما وأسيرا لها حتى في الأشواط الأخيرة من العمل.

كل الشخصيات قابلة لأن تكون عكس مظهرها في لحظة ما، أو عكس صورتها، متمردة على المرآة الجمعية التي حددت ملامح (هذه الشخصيات) بالقوة، أو بالقسوة لا فرق؛ ولذلك، فإن ما يسجل لبيضة القمر هو ذلك الإدراك بأن كائنا بشريا ما سيظل موجودا داخل هذا الوحش الاجتماعي الذي يطبق عليه ويمنعه من الظهور.

يمكننا أن نلاحظ مثلا، أن إنسانية الوحوش تتجلى في وحدتها، أو حين تنفرد مع شخص واحد قريب منها، إنها تجلس أمامه، دائما، كما تجلس أمام نافذة الاعتراف بلا أقنعة: سيار، خديجة، فرخندة، محفوظة، زمزم، ونعوم التي يفترسها الحب من الداخل غير قادرة على التعبير عن حبها سوى بالانتحاب، وحتى خلف الفرض، فكل الشخصيات تسقط في براثن إدراكها لوحدتها القاتلة:

(ليس لي في الدنيا سواك)

(وأنا كذلك)

(أنا تعِب)

(قهوة سوداء قوية يا نعوم)

(كل هذا الهواء والعرق يتصبب مني؟!)

(ليس لك مكان في هذا العالم، ولا وجود لأرض يبدأ منها المرء مرة أخرى)

(أنت أبوي وأمي وأخوي وكل أهلي)

(قضيت بضع سنوات هنا كالغريب.. وستقضي أنت السنوات التالية من عمرك في هذا البيت كالغريب، فلا بأس عليك، كلنا في هذه الدنيا من الغرباء)

ليس مهما في الحقيقة أي شخصية هي التي تقول هذا الكلام، لأن الشخصيات في هذه الرواية مُعَذَّبـةٌ بوجوهها الكثيرة، أو معذَّبة بأقنعتها، وعلى المرء أن يتأمل هذه الشخوص طويلا لكي يصل إلى نتيجة حاسمة، أهي شخصيات طيبة أم شريرة فعلا.

كان من عادة المعجزة في التراث الإنساني أن يكون مولدها من إشارات النور ومعانيه، لكنها هنا غير ذلك تماماً، إذ يأتي مولد تلك (الكتلة العفنة من اللحم) التي تُدعى خلف، المجللة بالفضيحة، وشبهةِ النَّسب لبحارة وسكارى وأعيان وشبه أولياء، والتي تعمل الأم (خديجة) على بقائها بعيدا عن الأعين، يأتي ميلادها كميلاد بقعة من الظلام لتعكير ذلك الضوء الزائف الذي يفترش كل شيء.

تبدأ نهاية تلك المرحلة من التحول، مع ميلاد لا يبشر بزوالها، بل بالذهاب بها إلى أقصى حدود جنونها؛ ولذلك فإن ميلاد خلف هو الجمرة التي ستظل تستعر وتستعر تحت ذلك الوعاء المغلق بإحكام والممتلئ بالكذب، حتى يصل هذا الوعاء بما فيه إلى انفجاره وتصل الجمرة نفسها إلى شبه فنائها.

يقدم أحمد جمعة رواية مغايرة في هذا المنظور، ولعل ما يضاعف هذا الحس ويدفعه للأمام، أن براءة نعوم الحامل، تظل خارج إدراك ما حدث، حين نتذكر أنها وهي تفكر باسم لجنينها، تظل مربوطة ومعلقة، هناك، بالماضي، ولا تجد من الأسماء سوى اسمَي (خديجة وسيار) فاتحة ببراءتها تلك الطريق واسعا لدورة جديدة. ومن هنا تغدو الرواية صورة لمجتمعات عربية كثيرة، وهي تتخطى حدودها بهذه الدلالات البليغة القائمة في معنى هذا التناسل..

ثمة رعب يسكن هذه النهاية، أكثر مما يسكنها الأمل، وثمة علاقة بين ميلاد خلف في صفحتها الأولى ووعد قدوم المولود الجديد في صفحتها الأخيرة، لأن ثمة شخصية لم تتعلم الدرس هي التي تمثل الآتي، وهي آخر الأحياء وآخر الشهود.

قد تبدو رواية (بيضة القمر) صالحة بذلك للاستمرار في جزء آخر، يتمّمها، لكن الأمر لن يكون سهلا، لأن مرحلة التشكُّل الساحرة ومفارقةَ البراءة، تظل أجواء من الصعب أن ينافسها المرء في عمل آخر، وإذا ما تم ذلك، فإن على كاتبها أن يؤسس لبراءة من نوع مختلف تمرئي ذلك الماضي بغرائبية تستعيض عن ذلك الماضي. لكن الشيء الواضح تماما هو أن رواية (بيضة القمر) ستظل رواية (قادمة) على مستويين، الأول باحتمالات رؤياها غير التقليدية أبداً، والثاني في أنها رواية تنتمي لمستقبل الرواية العربية، باعتبارها واحدة من الأعمال القليلة التي يمكن القول بأنها تحمل طاقات تجددها العميقة التي تمنح الناقد والقارئ فرصة لقراءات جديدة لها وهي تكتب نفسها باستمرار برؤياها الفنية.

  • بالفعل جاءت تكملة الرواية بجزئيها ، “قمر باريسي” و “رقصة أخيرة على قمر أزرق”



from WordPress دار لوتس للنشر
via IFTTT

Comments

Popular posts from this blog

رؤية معاكسة ضد تيار المقاطعة!