نعوم والاخوان …
“من رواية” رقصة أخيرة على قمر أزرق”
نعوم والاخوان
“من غيري يسمعني، هربت مؤخراً من الشارع المغبر الضيق.. رحت أجري بالسيارة كما أركض بقدمي، ألهث، كان الوقت ضيقاً وكنت أهم بالهروب المستمر إلى مزيد من الشوارع المزدحمة وهي تختنق بالسيارات والأرصفة التي تعلوها تلك العربات في حشد مجنون منها ومن الناس والأصوات وهذا ما ساعدني على التحرر من الذكريات، أخترق البنايات، أتركها خلفي وهي تخلو من الملامح الحية، إنها تبدو بلا حياة وغير مسكونة بالبشر، كنت شديد الإرتياب، تساورني الشكوك في كل ما حولي، تؤجل تفكيري في الأشياء، أجانب وروائح منبعثة، مياه متسربة من الشوارع وبين هذه الصور وصورة النائب القادم في برلمان البلاد نسيج مشوّش يقودني إلى عدم التركيز بين ما تمليه عليّ نعوم وما يحمله المجهول الذي يجرني لقاع الأفكار السلبية المظلمة والتي تحاصرني وتجلب معها التوقعات المعتمة، وهي تستفزني طوال الوقت، خروجي إلى الشارع وهيامي بين المتسكعين والضجيج والغبار والهواء الساخن الذي يملأ رئتي بالمرارة يستنفذ مني روح المرح، كل الخوف من ألا اقدر على الإندماج في الدين ولا أتكيف مع الملتحين وقصار الثياب وإتقان اللغة التي يتحدثون بها- جزاك الله خيرا- من أين أبد هذا الانغماس في العالم السفلي للإخوان ؟ كيف أُحشر نفسي بينهم وإلى أين ستقودني الدروب؟ لو نجحت ودخلت البرلمان ستتغير حياتي وسوف أصبح شخصية نافذة معقولة وستحل كل الأمور المالية والنفسية وربما أتزوج من فتاة قاصر كما يفعل الإخوان وأضمن ان تبقى نعوم مكرمة ومعززة في دارها من غير أن يأخذ علي المجتمع مأخذاً، فسُنة النواب اليوم ومن في حكمهم هو الزواج باثنتين أو ثلاث.. لماذا لا أبتسم لهذه الأفكار والتداعيات؟ ولماذا الحزن في نبرتي الداخلية والخوف والقلق من الآتي ؟، ألا أثق في نفسي وقدراتي؟ آه.. ماذا يجري هنا؟ لماذا أنا خائف؟ خوفي يقتلني يوترني حتى أنني لا أستطيع التنفس ولا المضاجعة ولا التلذذ بالطعام والنوم، ماذا لو فزت في الانتخابات؟ ودخلت البرلمان وواجهتني الدنيا بترفها؟
النور الذي تدفعني إليه نعوم يجتاحني، يضيء الكون من حولي، أرى بعينيها وأفكر بعقلها وأسير حسبما تهوى، تركت مصيري بيد نعوم ترسم خطواتي وتضعني على سكة القادم المجهول الذي لا اعرف ما وراءه..آه يا لنعوم ولأفكارها السامة القاتلة التي تأخذني إلى البعيد وتتركني أسبح وحدي وهي تراقبني، هدفها الوصول إلى البرلمان والسيارة الفخمة والراتب والنفوذ والوجاهة ومن ثم الانتقال من هذه الشقة التي تستنزف راتبي إلى منزل كبير بحديقة واسعة وبركة سباحة تظللها أشجار الرمان التي كانت تحلم بها منذ أن سكنت دار الشيخ سيار مع سلسلة متصلة من الأشجار، من الليمون والمشموم والياسمين والورد المحمدي.
صوت الشيخ فضل يتسلل بأعماقي من غير أن استدرجه حين يطفو على سطح أفكاري ويتداخل مع صوت مبارك حين كنا شباباً نغرف من عسل ومرارة الحياة وما زلنا شباباً ولكن من دون نفس طويل، ولا شبق دفين ولا حتى حنين للجسد ولروح الأشياء التي كانت تغرينا، ما عدت أبحث عن الرغبة التي كانت ذات مرة شديدة بدرجة خط الإستواء الذي يحرقنا،استرخت كل الرغبات بداخلنا ولم يعد إلا التشويش يهيمن علينا وكل الدوافع الحسية أصبحت اليوم تصب في الوصول مع الإخوان إلى مقعد في البرلمان لتدار بنا البلد ويتخذ غيرنا القرار فكما علمت طويت من فكري كل مشاعري ورغباتي وغرائزي عندما وقعت على ورقة مع المكتب السياسي للإخوان على الإلتزام ببرنامج التنظيم، لا فنادق مفتوحة ولا سياحة مطلقة ولا خمور ولا بارات ولا عاهرات تهيم في منتصف الليالي عند بوابات الفنادق الحقيرة من ذات النجمة والنجمتين، لماذا هل فنادق الخمس نجوم أكثر حشمة؟ هذا ما عرفته من الورقة التي كانت جواز المرور إلى النيابي، من أين اسقي ظمأي إذا أسهمت في حظره؟ لكنها السياسة والمكافأة والسيارة والجواز الخاص الذي يجعلها تستحق، علماً بأنه ستأتي الثمالة من حيث بحثت عنها فلم كل هذا الخوف والقلق، مع نعوم الحق، فلأذهب إلى نهاية النفق.”
****
كان طقس الدوحة حاراً كبقية المناخ السائد في المنطقة رغم دخول فصل الخريف، وسرى المساء برائحة الأطعمة المتعددة الأصناف التي امتلأ بها مطبخ القصر الذي تقيم به الشيخة خلود، ضج المكان بأصوات النساء والفتيات والخدم، فهناك مأدبة عشاء كبيرة دعيت لها نخبة من النساء على شرف وجود خلود التي استقرت منذ أيام بالقصر، كان دفء المكان وفخامته وعبق الروائح يوحي بالبهجة والإنتعاش مع الحيوية التي تطبع وجوه المتواجدين، وتنقلات الخدم من الرجال بأواني الطعام والشراب عبر الصالة الكبيرة التي تتوسطها الأعمدة المطلية باللون الذهبي، والتي تفصل بين مقاعد الجلوس وصالة تقديم الأكل المرتبطة بالمطبخ بدت الحركة وأصوات الكؤوس تختلط بالأحاديث التي لا يتبين شيئاً مما يقال لتداخلها مع بعضها البعض،ظهر القصر من الداخل مزدحماً بالحضور وازدان من الخارج تغطيه الأنوار المنبثقة من مئات المصابيح المختلفة الألوان، وحوله انتشرت عشرات السيارات من مختلف الماركات وراح اثنان من الرجال ينظمان حركة الوقوف عبر الموقف المحاذي للبناء.
ظهرت الشيخة خلود بفستانها الأبيض الطويل وقد زينت عنقها بعقد من الألماس، بدت بشرتها البرونزية تميل للبياض وسط أضواء المكان الحادة، واكتست ملامحها حيوية تنم عن حالة من الاسترخاء الظاهري، وبرزت عيناها الواسعتان وهما تحدقان حول المكان وقد صحبتها شقيقة عيسى التي قامت بالسير معها وتقديمها للنساء وسط فرحة الجميع بتواجدهم معها.
جرت كل هذه المراسم وهي محتفظة بمشاعرها مستقرة، وجمد تفكيرها عن السير وراء إحساسها الداخلي المختلف عن مظهرها الخارجي والذي حافظت من خلاله على توازنها وعملت على التماسك والظهور بثقة قوية وهي تستقبل ضيوفها، وقد برز من بين المتواجدين بعض من أفراد عائلة زوجها الذين أبدوا فرحتهم بها
from WordPress دار لوتس للنشر
via IFTTT
Comments
Post a Comment