رؤى ـ مهدي سلمان: أبطال رواية (بيضة القمر) للروائي البحريني أحمد جمعة يفاجأون في أولى صفحات روايته الجديدة (قمر باريسي) الصادرة حديثاً عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في 350 صفحة بـ (كارتونة حليب كبيرة, بجانب كارتونة معجون طماطم فارغة..) فيها مولود مجهول دثر بقماش أبيض هندي خفيف, بالرغم من برودة الطقس. هذا المولود سيكون مادة للشائعات والأحاديث لوقت طويل, هذه الشائعات تلهي سكان الحي الذين يهيمون في الأزقة بحثاً عن فضيحة ما, تلهيهم عن حالة الضياع بعد أن اكتسحت البطالة الحي, وانتشرت (زجاجات الخمر) المهرّبة والمسروقة والمتاجرة بها فيما بعد, ويوغل أحمد جمعة في تفاصيل أكثر تصف مشهد الحي فيقول (في هذا المناخ الذي ساده الشك والريبة وتبادل النظرات التي تكاد تسرق من الآخر روحه الحقيقية, وتنزل به فزاعة تطارد خيالات المنبوذة.. سرق العقل من الناس, وهم يتحلقون في الملاهي والطرقات والزوايا). هكذا يدخل جمعة إلى أجواء الرواية الجديدة, بصدمة لأهل ضاحية حي الحالة الجنوبية المحاذية لأطراف السوق, وبمادة للحديث لهم وللشائعات, ومنذ البداية يترك أحمد جمعة القارئ في حيرة, بل ويدخل معه إلى هذه الحيرة, عبر لغة قادرة على اقتناص التفاصيل من دون الذهاب المجاني فيها, وعبر اشتغال على (ألعاب) سردية تحفّز على تصاعد الحدث في كل فصل من فصول الرواية الأربعة عشر, دون أن تكون هذه الألعاب غاية في حدّ ذاتها. (مبارك) اللقيط الذي ربته (نعوم) يكشف وجوده عن عوالم سرّية جداً في حياة ذلك الحيّ, وارتباط فيما بين الرواية الأولى (بيضة القمر) والثانية (قمر باريسي), ومبارك أيضاً يكشف كما شخوص الرواية أغلبهم عن ذلك الخلل النفسي المتعلق بالجنس في المجتمعات المغلقة, وأحمد جمعة في هذه الرواية يدخل إلى هذه العوالم المغلقة بجرأة شديدة, ويحاول فكّ أسرار هذه العلاقات الغريبة في المجتمعات المغلقة بحرفية إجتماعية ونفسية, فهو من جهة يحفر في طبيعة الشخصيات وبناءها, وفي تكوينها الذي يفضي بها إلى التصرّف على نحو غريب, ومن جهة أخرى هو يوجه هذا البناء النفسي للشخصيات في سبيل الكشف عن طبيعة المجتمعات السرية والمغلقة, يحاول أكثر فأكثر الدخول إلى أبعاد غير مألوفة لدى الحديث عن هذه المجتمعات, وربما هذا جعل أحياناً بعض الأحداث في الرواية تبدو (غير معقولة) أو فلأقل (غير متقبلة) ربما لأنها تفضح بشكل جرئ جداً وغير معتاد شخصيات أخرى تشي بها شخصيات (قمر باريسي) حاضرة في كل المجتمعات المغلقة. حين يشبّ مبارك ويبدأ باكتشاف جسده, تصدمه حواجز كثيرة تمنعه من هذا الاكتشاف, فيوغل في أشكال مختلفة من محاولات الاكتشاف تفضي به إلى أن يتخذ (صاحباً!!) هو وليد, بينما لا يمتنع عن ممارسة عاداته السرية عندما لا يكون وليد موجوداً, وهكذا يذهب جمعة في كشف هذا العالم بصبر عالم, وتحضرني عبارة الروائي غوستاف فلوبير (إن الأدب يجب أن يكون دقيقاً مثل العلوم) وهذا ما يفعله جمعة في هذه الرواية, وربما لذلك استخدم لدى تقسيمه للفصول تقنية الاشتغال على الشخصيات ليخلص منها إلى نصه الروائي الذي يقرأ مجتمع تلك الفترة. ويبدأ جمعة في الحفر في الشخصيات (نعوم) التي هي الأخرى تكشف عن هذه العلاقة القلقة فيما بينها وبين جسدها لدى ارتهانها لشخصية (سلمان), (لطوف) في علاقتها مع (نسيمة) وكذلك نسيمة في علاقاتها الخفية والسرية, وكذلك في علاقتها مع مبارك, خليفة الذي يندفع بشدّة نحو نعوم, كل هذا الركض المستمر نحو الجسد أولاً والعاطفة ثانياً, يجعل من رواية (قمر باريسي) رواية تبحث في هذه المنطقة بدأب شديد, وبالرغم من أن جمعة كان أكثر صفاءاً لدى دخوله إلى الجوانب النفسية لشخصيات الرواية, إلا أنه أيضاً حين يحبك الحدث فإنه يحبكه بغواية شديدة, وقدرة على التوغل فيما بين فترتي (بيضة القمر) الرواية الأولى التي تدور أحداثها في أزمان سابقة, و(قمر باريسي) الداخلة فيما بين زمنين, ذلك العالم المغلق, وهذا العالم (المتوهم انفتاحه) ومن خلال علاقة نسيمة بعوالم الاتصال الحديثة, يبني جمعة حول علاقة الشخصيات بالجسد رؤية واضحة لانغلاق الداخل (النفسي) الذي يفضي تماماً لذلك الانغلاق الخارجي, والذي يفضي بشخصية مثل نسيمة إلى أن تبني علاقة هي غير مقتنعة بها أساساً مع (لطوف) وهي صديقة أمها. هكذا يدخلنا جمعة إلى فضاءات مهمة حين نريد البحث في طبيعة الشخصية التي تنشأ في مثل هذه البيئة, وهكذا يمكننا حين قراءة (قمر باريسي) وقبلها (بيضة القمر) أن نرى بوضوح إلى طبيعة التكوين الداخلي لشخصيات هي بالتأكيد غير ما تبدو عليه, ويمكننا أيضاً أن نراها دون أن نكون فكرة مسبقة عنها, نراها وحسب, ونقرأها وحسب.
|
Comments
Post a Comment