“حانة في السماء” رواية قادمة
ليلة الفلفل في لوغانو
فقرة من رواية تصدر قريباً
احمد جمعة
جمدت ساكناً إزاء لوحة فنية صنع الإله، خلق جسدي فاق الخيال أعجز عن وصفه تجاه تسارع دقات القلب وتدفق الدماء ساخنة بكل مفاصلي وعروقي كأني قبالة نحت تمثال يستحق الصلاة، فقدت رشدي أنا المؤمن بأعمدة السماء وبيوم القيامة إزاء هذا التمثال أمامي علامة بالخالق وليس ضده، فمن نحت هذا الجسد بلونه الأطلس الأسحم قد كرس آية من آيات الجمال تشهد على إبداع الخالق، وقفت مبهوراً لا ألوي الجرأة بلمس هذا التكوين الجمالي خشية أن يفلت من قبضتي بمهب الريح فلشدة إتقان التفاصيل بنسيج الجسد واللون والتضاريس التي باغتتني بتألقها وقفت حائراً بالاقتراب منها أو الاكتفاء بابتسامتها المتلألئة تفيض بالتوهج فتشق صدري وتخفق بقلبي الذي قد لا يحتمل هذا التكوين الرباني للجسد والروح واللون وكل ما فيها ينطق بآية الجمال، لن أقف وأصف لنفسي ما أراه فأفسد كل ما أتوق إليه من صبابة، اكتفيت بالنظر وزادت خفقات القلب حين انثنت بطرف السرير وأشارت نحو كأس النبيذ على المنضدة بالطرف، حملت كأس الأرجوان بيدٍ ترتعد فأمسكت بيدي وجرتني نحوها.
“ويحك عتيق”
رسمت بداخلي سراً لوحة حسية لما أشعر فيه بهذه اللحظة من رغبات متضاربة بين الوله والشهوة والإيمان بالخلق، مشوبة بتوجساتٍ واحتمالات لا أتكهن إلى أين تقودني؟ كان وعيي مازال قائماً بأني أمام امتحان ينتظرني من متعة بالحياة المتبقية ليّ فأنا ألآن أقف بقدسية أمام هذا الجسد الذي لم يخطر ببالي أتجمد أمامه فيما هو متاح ليّ بحرية دون قيود ورغم شغفي فيه أواجه صعوبة باجتياز العتبة نحوه، فلو فشلت هذه المرة بتحرير جسدي من الخوف وفٌكَت قيوده من الشكوك بقدرتي إطلاق العنان لشهوتي فقد تكون هذه نهايتي التي بعدها ليس أمامي سوى قطع تذكرة والعودة لشقتي الفارغة من أي عاطفة. فكرت بعدم التسرع وبذات الوقت أخاطر بتحسس المرأة من تأخري وترددي، قفز أمامي حائط سميك بالخوف من الفشل، وهو الخوف الدائم الذي يقود لدفن ما تبق من الجسد والروح في قبرٍ مسكون بالوحدة. ما جري حولي وأحبط عزيمتي؟ لماذا الشك والخوف من الإحباط؟ إنه مجرد جسد جميل يدعوني للاحتفاء به كما يفعل الجميع، ها هو حبيب يطرق كل ليلة جسد مماثل ويبحر في محيط واسع الأطراف بجمال الخالق وهو بسني دون أن يتوقف ويطرح الأسئلة ويحيط ذاته بالمخاوف، لماذا أشكك بذاتي؟ لابد أحرر نفسي من خوف الفشل، لقد فعلتها من قبل ولو كان ثمة عائق لما تمكنت بالإبحار كما جرى الأمر سهلاً مع أوتافيا.
جلست بطرف الفراش ومددت يدي ورحت أتحسس فخذها المكتنز فأشعر بسخونته تلسع يدي ونعومته تشبه رخام أسود مصقول مدت يدها بدورها وراحت تتحسس كتفي ثم تنزل لخصري وهنا دب بجسدي ما يشبه سريان الموج الداخلي، كانت الغرفة مضاءة بلونٍ برتقالي باهت امتزج بلون صبغ الحيطان الأزرق كالبحر، بلون سجاد الأرض الرمادي، برز السرير كلاسيكياً واسعاً وغطى بشرشفٍ أبيض بدا تحت جسدها الداكن ناصع البياض، بجانب السرير منضدتين على الطرفين ومصباحين عموديين هما مصدر اللون البرتقالي الباهت، فستانها الأصفر ملقى بلا عناية على حافة الكنبة بالوسط الأيسر من الغرفة ونزعت حمالة صدرها ووضعتها فوق الفستان فيما اكتفت بسروالها الداخلي الضيق الذي شع بلون البنفسج.
حملت كأس النبيذ لها مرة أخرى احتست جرعه منه واعتدلت بجلستها وقرصت أذني اليمني بأسنانها برقةٍ وتسللت يدها نحوي وراحت تعبث بين فخذي، حينها لم يكن مفراً بالاستسلام لمصيري المحتوم بين زندي هذا النحت الرباني، أوشك العالم بالانهيار إزاء تألق الأسود.
****
غادرت رين بانسيابٍ خاطف بالضحى مع بدء رذاذ مطر ناعم مخلفةً بقايا طبقها من البيض والجبن والفاصوليا مع إبريق الكوفي فوق منضدة خشبية قديمة محاذاة الكنبة وبجانبها مطفئة زجاجية اكتظت بأعقاب السجائر، لا أعم متى تم تدخين كل هذه الكمية؟ نسيت أني بغمرة عنفواني الليلة الماضية قد دخنت كمية من السجائر دون علم بنظام التدخين في هذا النزل الرخيص الذي أتاح ليّ قضاء أصيل سيذكره عقلي ببهجةٍ إلى أن أُدْفَن بالقبر، كانت سهرة أرجوانية بحد تعبير حبيب حين يمتدح الليالي التي يتألق فيها الجسد وتتحرر فيها الروح، لست بوارد سرد ما جرى معي بعد أن أزاحت عني الملابس وتعريت معها وأصبحنا قطعة واحدة معتمة وسط صهيل خيول وكأني فارس من نبلاء القرون الوسطى يخوض معركته الأسطورية لإثبات فروسيته التي كانت محل الشك حتى أبلى وخرج بحربه الشرسة بوسام البطولة، كنت عتيق الفارس وكان الفراش ساحة المعركة وكانت رين هي المعركة الصاخبة التي تشكلت بجولاتٍ عدة بَزَغْت من أتون رحاها منتصراً متفوقاً على نفسي. هذه الحرب الحسية بدأت حين شككت بنفسي وفقدت ثقتي بجسدي الواهن الهزيل لكن الجمرة المتقدة أسفل الرماد سرعان ما اشتعلت وأحرقت بداخلي الأخضر واليابس. أنستني هذه الساحرة السوداء ذات العينين الزرقاوين، عرقي الأصلي كما أُوْهِمت لسنين سحيقة حين تعقبت جذوري كلمة زنجي التي لا أعلم بأي جيل لصقت بأسرتي ولا بأي بيئة نمت معي حتى بَلَغْت ورافقتني بالمدرسة وكانت إحدى أسباب هجري الدراسة هروباً موجعاً لذت خلاله بنفسي من لذع كلمة زنجي التي تبعتني أينما اختبأت منها فأضحت كظلي كلما وقفت بجنب الأبيض شعرت بالدونية وبأني عبد لمن يقف محاذاتي، حتى يئست من علاقتي بالأبيض إلى أن اقترنت بمريم التي حررتني تجاه شعوري بالزنجية التي سادت بلسان أقرب الناس، منهم أصدقائي بمرحلة الدراسة الأولي وظلت تتعقبني إلى هذه الساعة التي ولدت فيها حراً إزاء تمثال الحرية الأسود “رين”
تركت المكان مع نكهتها الزكية بهدوءٍ وسكينة وخلفت آثارها مطبوعة بأنفاسي، رائحة الغرفة بطعم الافندر وعبق جسدها الأرج بعطرٍ خلاب ظل بكل أثر خلفته وبكل شيء لمسته بيديها في الغرفة، من قارورة النبيذ إلى الكؤوس وعلب السجائر مع بعض شعيرات ذهبية من رأسها، كان أثر حمرتها بطرف كأسيها اللذين كانت تتبادلهما معي وعلى حافة الفراش، حتى الحمام غص ببقايا القطن الذي أزاحت فيه مكياج وجهها وعلى المحارم وبقع المياه بأرضية الحمام. ظللت أتأمل تلك الآثار وأستعيد الساعات التي حدثت فيها كل الوقائع الأخاذة منذ اقتحمنا الغرفة حتى فَلَت منها كفراشة لم أتحرك من مكاني إلا حين شعرت بوخزٍ بسيط بقاع قدمي اليسرى، نهضت وأزحت ستارة النافذة المشوشة بالبقع ورحت أحدق بقطرات المطر المنهمرة كخيوط برتقالية اللون خلفتها أنسجة الشمس الخجولة المنسلخة من بين الغيوم الكثيفة، حين عدت أدراجي لأستلقي مسترخياً بالسرير هالني بغتة أني لم أُسَلمها أجرة الليلة الأسطورية.
“ويلك عتيق”
اشتعل عقلي سريعاً، فكرت بشيء استثنائي ما اكسر به حدة شعوري بالإحباط الصاعق بهذه السقطة المروعة وكيف نسيت نقدها أجرتها التي تستحقها ذهباً خالصاً على أروع ليلة قضيتها بحياتي لم أذق قبلها شيئاً مماثلاً كالذي جرى بيننا بهذا النزل الرخيص النائي، لم تقف اللغة عائقاً ولا فارق السن وهزال البنية، دمجنا اللون الأسود الفاحم، مزج مشاعرنا وجسدينا وجعل العالم يعيد تكوينه بالأسود. سرحت بهذا الاكتشاف المذهل الذي شكل أسطورة السواد، كان الأسود باعتقادي هو لون الحزن ولون الأدنى ولون الجنائز، ولون الزنجي الذي قيل ليّ ولا أذكر المناسبة أنه من زنجبار العمانية، هذا ما كنت اعتقده طوال عقود حياتي المنصرمة حتى أيقظت رين المرأة السوداء وعيي من هذا الاعتقاد وحررتني من أزمة نفسية بداخلي تجاه الأسود الذي أثبتت الليلة الفائتة أنه لون العالم الجميل. وددت لو ملكت يراع حبيب بالكتابة لسطرت الأناشيد والأهازيج باللون الأسود لكني اكتفيت بشعور الغبطة وأنا أكتشف أن الأسود تاج الجمال والفضل للفتاة الكينية الإيطالية رين التي لو أمكنني لقضيت بقية حياتي معها وألا أعود للوطن للأزل. سرني هذا الشعور الدافق بالحرية ورافق رغبة مجنونة بعدم العودة للوطن وقضاء بقية العمر هنا احتفاءً باللون الأسود.
“فقدت رشدك عتيق”
لم أفقد عقلي بل انبهرت بهذا العالم الفريد الذي وجدت فجأة نفسي أعيشه وكأنني أولد من جديد، هذا ما يفعله المال حين يكون بحوزتك ولو أدركت هذه الحقيقة قبل سنوات لما قنعت بوظيفة المراسل. بهرتني ذاتي المكتشفة فجأة وقد أدركت ما أهدرت من سنوات بظل جدار سميك من الخوف الدائم من الآخرة والنار، حتى إذا ما فات فرضُ واحد من الصلاة التي أدمنتها طوال حياتي شككت بأن أبواب جهنم فُتِحت ليّ شخصياً، كان الخوف يحاصرني من أية زلة أرى فيها مصيري وقد بلغ حداً أني حفرت آلاف القبور لذاتي كل ليلة أضع فيها جثتي بالفراش أنام وكأن الفراش هو قبري.
حين أخذ مني الاسترخاء وبدأت أستعيد حيوية جسدي الخدر نهضت وتلفت حولي لأجد هاتف الغرفة وقد نُزِعت منه فيشة الهاتف، كنت أود الاتصال بحبيب ولو بالأقل عبر قسم الاستقبال، وبذكر حبيب أود بشغفٍ لو يَطْلق على روايته التي يدونها “حين يتألق الأسود” سيكون قد قدم خدمة للعالم بهذا الاكتشاف. وقفت بوسط الغرفة الغريبة الهيئة وقد بدت بيئة للعزوبية من حيث اللوحات المعلقة بجدرانها والتي لم يسعني ملاحظتها بالليلة الماضية، فقد كانت عبارة عن مزهريات قديمة الشكل تُذكر بعصور السحرة، فجأة وفيما كنت أتأمل الصور إذ بطيف شيخة بنتي يطفو أمامي وتذكرت اتصالي فيها بالأمس ولم أوفق فيه، عاودت محاولة الاتصال لكن دون جدوى، أرجأت المحاولة حتى التقي حبيب وحرصت ساعتها بعدم إذابة جليد الحرية الذي فك قيود الزنجي.
****
بخيلاء المتحرر من القيود رحت أختال زهواً منتفخاً بغطرسة لم أعيها وشعوراً تملكني فيما كنت أتهادى بالردهة الصغيرة خارج فندق السهرة الرخيص بينما كنت انتظر نزول حبيب الذي هبط وعيناه تكتسي بالسواد عند الأسفل وبالانتفاخ بالأعلى، ضبطته بهذا الحال وكأنه عُصر داخل معصرة وتُرِك منكمشاً وعلا وجهه الوهن فيما انبسطت أساريره رغم التعب الذي اكتسح خطواته المرتخية، رمقني بنظرة مبتسماً وانزوى بركن البهو الخارجي عند حافة الأشجار المطلة على هضبة قرب الواجهة وفيما هم بإشعال سيجارته صادف وخرجت من الردهة أونيلا وقد تغيرت ملامحها وانمحى سحرها الليلي وكأن هناك من نزع بشرتها إذ تلاشت الألوان الزاهية عن وجهها وظلت بشرتها الصفراء ساطعة بشحوب ما بعد النوم. كانت الساعة الثالثة عصراً والطقس بدا غائما وبقايا مياه الرذاذ تغطي أرضية المكان المرصوفة بقطع حجارة غير متوازية الحجم واللون، سارت تتهادى نحوه وجلست بقربه بذات الملابس الزرقاء الليلية من دون الإضاءة الصارخة المشعة من سروالها وقميصها فيما أحاطت خصرها بمعطفها رغم شدة البرد بالساحة الخارجية إذ كان ثمة تيار بارد يلفح الوجوه. استلت سيجارة ونظرت لحبيب الذي سارع يشعل لها السيجارة وقفت أتأملهما بينما خرجت امرأة متقدمة بالسن نسبياً يحفها شاب عشريني العمر وقد قبضت على يده بشدة كما لو تخشى عليه الفرار، كانت متصابية مطلية بالألوان تحمل بطرف ساعدها الأيمن حقيبة بنية اللون متناغمة مع قميصها البني ومعطفها الأسود، ولفت انتباهي ارتدائها سروال جينز ضيق أبرز تضاريس فخذيها المشدودين كما لو كانت فتاة عشرينية، وقفت بجهة مقابلة من الردهة وأشعلت سيجارة بينما ظلت قابضة بيد الشاب الذي راح يبالغ بتقبيل خدها ووجنتيها.
وقفت باسترخاء أحدق بعينين واهنتين ونظرة مغتبطة بطقس المنطقة المشجرة بالأزهار، طفقت فراشات ملونة بقوس قزح ترفرف حول المكان ورحت أتابع تنقلها الخاطف بين الأشجار دون أن تستقر، شعور الزهو والخيلاء بما تحقق الليلة الماضية جعلني أحس بأني ولدت للتو هنا وخلفت ورائي السنين المنصرمة كوهم لا يجدر فيّ وضعه بحساب العمر، فالنشوة التي فاقت خيالي وتوقعي الذي منحتني إياه برغدٍ الجوهرة السوداء منذ برهة فيما كنت مستغرقاً بالنوم، جعلت وقتي يزهر كأنه عمر جديد يدعوني للانطلاق في حيوية بأجواء لوغانو، حتى الفندق الرخيص الذي احتضن سهرتي ووفر الأجواء لأعيش هذا الخيلاء برز كأرقى فنادق العالم بمجرد أني أنجزت فيه انتصاري الأعظم بمعركة كسر العظم مع الخوف بالفشل والشك بأصلي الأفريقي، تغلبت على الخوف ومسحت من صفحة حياتي التوجس والتردد وبدأت أستعيد ثقتي بجسدي وروحي اللذين فقدتهما هناك وراء البحار حين قضيت السنين العجاف داخل كرة من الرماد أشبه بجسدٍ ميت وروح جافة توشك الذبول والتلاشي. يا له من إحساس زاهٍ بالنهار ورذاذ المطر ولون الفراشات ونكهة السيجار التي انبعثت للتو من جهة حبيب الذي يبدو لم يكتف بالسيجارة فأشعل السيجار الكوبي وراح يرش المكان بحلقات الدخان ورائحته الزكية التي لا تقاوم، وددت مشاركته السيجار لولا أني لم أفطر أو بالأحرى لم أتغذى فالساعة قاربت الرابعة عصراً.
“أخبارك عتيق؟”
قالها بصوتٍ مشوب بالخدر وبابتسامة نمت عن وهن فاضح تملكه فيما ظلت أساريره تنبئ عن انتشاء أحاسيسه.
“إن كنت تبحث عن وقائع غير مألوفة لروايتك حبيب فقد ظفرت بحوادث تقارب الخيال”
“أدركت ذلك من وجهك عتيق”
ظل الحديث بيننا مقتضباً لا لعدم ما يتوجب الكلام فيه أو سرده لكن لشدة زخم المشاعر وحدة الاسترخاء الذي كنا فيه، لم تسعفنا الرغبة بالحديث لحالة الوهن بالجسد والذهن، كنت أود أن اروي له بعض الأحاسيس التي خرجت منها منذ الليلة المنصرمة لكن الهدوء والاسترخاء وشدة الإرهاق جعلني أكتفي بالتحديق في الأجواء السحرية بهذه الساعة التي تطاير فيها زغب الطيور وتنفست السماء بغيومها رذاذ بدأ يهبط بتؤدة، لم نعبأ بالمطر الخفيف إذ اكتفيت بالتراجع للوراء للاحتماء أسفل جدار الشرفة المطلة من أعلى فيما انكفأ حبيب لداخل الردهة وظلت السيدة المتصابية مع وليفها الشاب تحت الرذاذ يتبادلان القبل. نهار آخر بلوغانو خلف بصمته في حياتي المستيقظة من البيات الزمني الذي جرى بتمهل شرس كأنه سلحفاة كابَدْتُ خلاله المرارة والوحدة من غرابة وسخرية الزمن وهو ينصرم ببطء يقتص منا الوقت ويزرع فينا التجاعيد ويحد من أوقات الانشراح بل يُنْهي شبابنا بسرعةٍ خارقة كأنه النار حين تهيم بالهشيم، بالمقابل تَفْل الأوقات المرحة البهيجة بسرعة الضوء ولا تكاد تنفرج أساريرك بشيءٍ محبب لديك حد الجنون حتى يتبخر الوقت ويذبل الفرح وهذا ما شعرت فيه اللحظة حين فرت بتؤدة بهجة الليلة الفائتة وكأنها ثوانٍ عبرت وتلاشت ولم يبقّ سوى ذكريات وصور جميلة ووهن ينخر البدن لكنه حمل معك عتيق من اللذة والاسترخاء ما جعلك تتحسر، كيف مضى بهذه العجلة الغريبة؟ فلو كان حادثة موجعة أو موجة حزن أو موضة كآبة أو شعورٌ بالوحدة لجثم كل ذلك على صدرك وكبت أنفاسك، تلك مفارقة انتبهت لها بالأيام القليلة التي قضيتها بين بحيرة وجبال كومو وسماء وليالي لوغانو، حتى التفكير بابنتي شيخة الفارة من حياتي بلا حجة لم يبلغ قلقي بشأنها ما يرقى لدرجة الهلع الذي كان ينتابني كلما اجتاحني السهاد بالليل وأنا أتخيل من يباغتني بخبرٍ صاعق عنها. اختفى ظل مريم ونادراً ما عبر حولي طيف سعيد وتلاشى نهائياً التفكير بمصيري بعد إحالتي التقاعد وهو التفكير الذي لشدة ما حاصرني جعلني أدرك بيني وبين الموت قيد أنملة. لا شيء من هذه الأفكار المشوشة تطفو برأسي سوى مجرد هاجس عابر بشأن اتصال شيخة منذ يومين وبقدر ما فكرت فيها وقلقت لحدٍ ما وعزمت على محاولة الاتصال فيها بتدبير من حبيب المغرم بالتنظيم، لم يتجاوز الشعور بالوسواس أكثر من ذلك بعكس حين كنت بأرض الوطن لَكنت الآن نهباً لموجات الذعر المتكررة وعرضه لخفان القلب والشعور بقرب الموت، يا له من تغيير غريب مباغت قلب مشاعري رأساً على عقب وأعاد ليّ المتعة بالحياة التي اختطفتها السنين الغابرة تلك التي شحذتني بالسواد القاتم لأكتشف ببراعة متناهية أن الأسود هو لون التمرد على المشاعر ولون الغموض والإغراء الذي يلف حياتك، لقد تحررت من سواد الأفكار وذبت بسواد متشح بالقوة والإثارة حتى رأيت من خلال هذا الاكتشاف المتأخر بأن العالم حتى لو أوشك على الانهيار فلن يهتز عرشي الأسود. لم تعد ظلال الزنجي المشئومة تلاحقني فقد حررتني رين بأيامٍ معدودة بما التصق بيّ لسنوات طويلة شاقة.
شيخة طفقت بذهني فتطلعت للقاء حبيب للتواصل معها، كانت رغم كل ما فعلته بيّ من هفوة شنيعة بفرارها عن بيتي لكن تبقى بقلبي هي طفلتي البريئة ذات الدلال الأول ومنها استمد وجودي بالحياة ومعناه وقيمته، فقد سَهَرْتُ الليالي أحملها بين ذراعي من مستشفى لآخر ومن مركز صحي إلى صيدلي إلى قارئ قرآن حين اشتد عليها المرض وهي بعمر السنتين وكانت كوردة تذبل ويذوي معها عمري، كان مرضها العضال بالسنوات الأولى نائبة حلت بيّ ولن أفق منها إلا حين انتشلتها وعادت تزهر كملاك. من يومها ظللت أدللها بأقصى ما ملكت، وفرت لها العيش الكريم والصحة والملبس اللائق وضممتها بين ذراعي طوال الليل والنهار، كانت تقفز وترفرف كفراشة بأرجاء الشقة وتتنفس المرح وتقلب المكان رأساً على عقب وَقَفْت حاجزاً بينها وبين مريم التي كانت تُغِير من هذا التدليل. لم تفارقني صورة الطفلة تلك حتى بعد أن ترعرعت وشبت وتخطت سن الطفولة وبًلَغَت ظلت هي الطفلة المريضة التي نجت من المرض بأعجوبة وحين أصبحت فتاة وبدأت تتمرد بصوتها الصاخب وجلبتها الدائمة وعراكها مع مريم وشقيقها وحتى مع فتيات الحي ظللت أغطيها وأحميها وأصد عنها الهجمات إلى أن بدأت تتسلل من الدار بلا أذن وتتأخر بالليل مدعيةً بأن كل صديقاتها بالحي يخرجن ويمرحن إلا هي. وحين تجاوزت الحد المعقول وأخذت تتشاجر مع الجميع حاولت إبراز تشددي معها وقطعت عنها المصروف ومنعتها من الخروج إلا أنها وجدت طرقها الملتوية بالتسلل بعد أن تجري اتصالاتها المشبوهة إلى أن جاء يوم وفرت فيه. تفاصيل كثيرة معقدة مررنا بها كأسرة كان محورها هي، لكنها رغم هذا كله ظلت بعيني تلك الطفلة المريضة البريئة التي نجت بأعجوبة، من يومها وإثر ما تركته بقلبي من حرقة ومرارة أدركت أنها خرجت نهائياً عن سيطرتي واختفت إلا من مكالمات ورسائل نادرة تؤكد سلامتها. ما الذي جعلني أسرد هذه التفاصيل حولها الآن؟ ربما استذكرها فيما لو أراد حبيب تدوين تلك الوقائع حين أطلب المساعدة بالاتصال فيجرني كعهده إلى الأسئلة الدقيقة والتفاصيل المملة.
كنت بصدد التوجه لغرفته التي لست متأكداً موقعها حين استوقفني موظف الاستقبال، شاب أنيق ورقيق ظل يخاطبني بلغة انجليزية بدت ليّ ركيكة رغم عدم اتقاني إياها وسلمني ورقة كتبها حبيب مفادها أن ثمة سيارة أجرة تنتظرني بالخارج رتبها ستأخذني لفندقنا بلوغانو سنتر وسيوافيني هناك بعد ساعات أدركت أن الرجل غارق حتى أنفه بالعلاقات وأنه لا يترك فرصة تفوت دون أن يغمر نفسه بالمتعة، ابتسمت وبدأت البحث عن مصدر السيارة التي تنتظرني فوجدتها بعد عناء تركن عند ناصية الفندق صوب المنحدر المتجه نحو قمة الجبل، عرفت أنه أنهى كل التزامات الليلة الماضية مع الفندق. توجهت للسيارة التي كانت صغيرة وأنيقة ووجدت سائقها رجل إيطالي مسن بلحية بنية خفيفة أقلني بدقائقٍ صامتاً مكتفياً بسماع إذاعة محلية تبث الأخبار.
ظل تفكيري محصوراً بشدة في حبيب واختفائه المريب المباغت وبين رين وذكريات الليلة الأرجوانية التي طغى فيها طعم الفلفل الحريف على كل ما حولي وحولني لذئبٍ مسعور كما حررني من زنجيتي، بدأت للتو بالتفكير بمزيدٍ من الفلفل والنبيذ واللون الأسود الذي بسببه سينهار العالم، نسيت شيخة التي أرجأت موضوعها وتيقنت من أنني بحاجةٍ ماسة شغفة مرة أخرى لرؤية رين ودفء سوادها. كيف يسير العالم بدون امرأة سوداء؟
from WordPress دار لوتس للنشر
via IFTTT
Comments
Post a Comment