من مقطع من رواية خريف الكرز

 kharef alkarz (5)

من خريف الكرز

جوري

خريف الكرز

من حافة الفناء الفاصل بين الداخل والخارج وقفت عند طرف

الجدار مسندة يدها إليه وهي تتساءل بثقة من يعرف بأن الوقت ظلام

«لم توقدي المصباح؟

ثم أردفت بسؤال آخر وكأنها على علم بالجلبة التي حدثت تواً

وقد غيرت من بنبرة صوتها المترنح لتعيد إليه النشاط بعد أن دبت

الحركة في المنزل إثر السكون الذي خيم عليه طوال النهار، كان

صوتها أقرب لصوت الديكة عند الفجر.

«من توفي اليوم؟ غواص آخر، أم حامل تطلق؟

كانت الوفيات في الحي تتجلى من وقت إلى آخر وتدرك رقية

العمياء بحاسة السمع التي عوضتها فقد البصر ما وراء الصرخات

المتكررة في الحي كلما حدثت وفاة، ولشدة اعتيادها الأصوات

والصرخات المدوية المحاكي صداها بالليل والنهار، لم تهرع إلى

الخارج ولم يهتز لها طرف بل اكتفت بترديد عبارة «لا حول ولا قوة

إلا بالله

«هناك رائحة دخان في الدار

بدأت ترسل إشارات، لمحت طيف تبغ يفوح متسللاً إلى

المكان، ميزت نكهته، فقد اعتادته طوال سني علاقتها بزوجها

المدخن للنارجيلة، وشقيقها المدخن « للقدو » لا تعوزها الحيلة في

الوصول إلى مرماها، فقد اسْتعانَت بكل حواسها للتعاطي مع جوري

المراوغة، كانت الزوجة اللعوب تدرك أن العجوز شديدة الشكوك،

وسريعة البديهة وراصدة للحركة بالسمع والنظر في الليل حينما

يتساوى الأعمى والمبصر، فتبادلت الاثنتان المراوغة تجاه بعضهما

66

خريف الكرز

بعضاً، ولم تجب جوري عن أي من أسئلة العمياء واكْتفَت بالقول

وهي تغادر المكان باتجاه الغرفة:

«الرائحة تملأ الحي كله، سأشعل المصباح وسأخرج بعد قليل

أبحث لنا عن شيء نأكله، الدار قفرة

ولجت الغرفة وبيدها شمعة عريضة أنارت المكان حيث وقف

الرجل الذي بدا عليه الوجوم لدى دخولها، طَفِق يتأملها، فيما أوحت

إليه بالصمت.

«كم تحمل معك؟

قالت بصوت هامس بالكاد وصل إلى أذنيه، ثم فوجئت به

يتقدم منها خطوتين ويمسك معصمها، فيما التوت الشمعة في يدها

وكادت تندلق عليه.

«كفاك، ماذا تريد؟

«دَعِي عَنْكِ ذاك الطفل المدلل تقي، سَأُلَبي كل طَلباتِكِ

«إسمع، زوجي سيعود قريباً لا أود فضائح في الحي، أي شيء

تريده تعال إلى منزل دلال، والآن كم معك؟

«هل أبدو مغفلاً؟ الحب لكل الفصول، يبدأ عند تقي وينتهي

عندي؟ أنا الخريف وهو الربيع والدفع بعد العمل وليس قبله هذا

هو القانون الإنكليزي

«إخْفض صوتك

ظل يدور حولها، أدركت من هذيان نظراته المرتعشة بالشهوة

أنه لن يغادر الدار ما لم ينلها، حاولت مراوغته لتحظى ببضع روبيات

لكنه بدا كالصخرة لا يلين، سار نحوها وقرب وجهه من وجهها حتى

67

خريف الكرز

كادت تسمع أنفاسه ودقات قلبه السريعة، أمسك بمعصمها وسحبها

نحوه ووضع يديه على مؤخرتها فيما وجهت سهام نظراتها نحوه

قائلة بلهجة آمرة:

«أعطني المبلغ، عشر روبيات

دفعها نحو كنبة أرضية مسطحة ومتهرئة الأطراف، كان ضوء

الشمعة يترجرج يلطمه تيار خفيف من الهواء تسلل من فتحة الباب،

أخرج ورقة مالية ووضعها على طرف الكنبة ثم بدأ بخلع ثوبه وسط

ابتسامة صغيرة طبعتها على شفتيها وهي تتأمله متحفزاً وراء شهوة

ترجّحه كغصن يهزه الهواء.

«تفقد الأشياء بريقها لو تأملناها وقتاً خارج المألوف

فقد رغبته في لمحة، أوشك على ارتداء ثوبه عندما سبقته بنزع

فستانها ذي اللون الوردي الغامق المزهر بالأبيض، واكْتَفت بقميص

أزرق شفاف كشف عن صدرها العريض وعن نهدين نافرين، بدت

بشرتها الداخلية فاتحة أكثر من وجهها وشرعت تمسح فيما يبدو

العرق من إبطيها بطرف فستانها الذي خلعته، اسْتَدارت نحو الباب

وأحكمت إغلاقه، حركت الشمعة من موقعها فيما سرحت عيناه

على مؤخرتها.

«حذار أن يخرج صوتك من فتحة الباب

بدأ ضوء الشمعة يخفت وراحت اليدان تداعبان الجسد المسجى

على قطعة الكنبة المسطحة، أزاحت الورقة المالية عن طرف الكنبة

واسْتَلقَت على ظهرها وسمحت له بسحب قميصها الشفاف إلى

الأعلى ثم نزعت سروالها الواسع وقذفت به على الأرض، في

68

خريف الكرز

الضوء الباهت الأقرب إلى العتمة، لمع سطح بطنها كاشفاً عن

نحافة ناعمة، وخصرها الرشيق بدا أشبه بغصن شجرة باسقة، ولم

تعد تلمح عينيه في الظلام واكْتفَت بسحب يدها ووضعها أسفلها،

تنهدت قائلة بهمس تكتنفه حشرجة في الصوت:

«إرْوِ حيتي

«نعم؟

راحت تلوي جسدها بحركة أفعوانية ثم أصدرت أنيناً كمن

تستنهض شهوته للإسراع في القذف، أخذت تختلق تأوهات ترافقها

حركات كأنها تستخرج شبقه المطمور بسرعة فائقة، حين صرخ فجأة

دفعته بعنف ونهضت مسرعة نحو سطل الماء بزاوية الغرفة وراحت

تغتسل بسرعة وعصبية كأنها أُصيبَت بحمى مفاجئة.

«جوري

لم تجبْه انْشَغَلت بالاغِتسال، اسْترسَل قائلاً:

«متوهجة، ما زلت متشوقاً إليك

نهضت تجفف الماء، أسرعت في ارت 􀃥􀃥داء ملابسها، غمرها

إحساس بثقل جسمها ورفضه للجسد الآخر، شعرت بأنها انْتُهِكت من

جسد غريب لا يقبل المثول أمام جسد ذكوري وهو ما عانته مع راشد

زوجها منذ لحظة اقْتحامه لها، الْتقَطت الورقة المالية وقذفته بالثوب.

«غادر بسرعة ولا تَعُد مرة أخرى، إذا أردت أن تراني تعال إلى

منزل دلال. هيا قبل أن تخرج العجوز

كان الطقس في الفناء بارداً يضيئه القمر بوشاح من ضوء

69

خريف الكرز

برتقالي يضفي على المكان سحابة عطر رباني، جلست القرفصاء

على عتبة خشبية بجانب الشجرة، تتنفس نسمات المساء وثمة زقزقة

لطائر صغير يبدو فاقداً سربه مع حلول الظلام ولم يسعفه ضوء القمر

على اللحاق بالسرب، بواكير الشتاء تلوح في لون أوراق الشجر

وفي طبقة الغبار العابرة من فتحات الأبواب والنوافذ، سرت رعشة

باردة في أطراف جسمها وكأنها تسير على سطح الماء، انْخَرطَت

في البكاء مأخوذة برغبة الانْسلاخ عن الدنيا من حولها، قفز طيف

زوجها راشد القابع منذ أربعة شهور في قلب البحر، لاذت بالفرار

من هوس التفكير في كل شيء ينقلب ضدها، الشعور بالموت للبشر

يُحَلق حولها، من الزوج، الغائب، رقية العمياء، الجيران، هاجس

الجوع وفقدان الأحبة، الرجال القذرون الذين يحيطون بها، تلبسها

الخوف من كل شيء، تفتعل الضحك والصراخ لتغمر المرارة،

مسحت الدموع وتطلعت إلى الطقس الليلي البارد حولها مع ضوء

القمر، شهوة دفينة اسْتَيقَظت فجأةً في جسدها تجاه نرجس الفتاة

الوحشية الجسد بدار دلال، كانت تلاحقها بالنظرات ثم تجاسرت

على الاحتكاك فالعناق ما أشعل فيها كرة نارية أيْقَظت طلاسم

جسدها وهو يتوق طوال السنة إلى تلك القطة المفترسة نرجس، عبر

طيفها هذه اللحظة بعد أن سُحقت لوهلة من جسد رجولي دخيل،

ودت لو ترفع من وتيرة الاحْتكاك مع تلك النرجسة، يسكنها هوس

الشهوة معها.

«قضمة من شفتيها ترويني

70

خريف الكرز

ابْتَسَمت إثر ورود هذه الخاطرة بذهنها المشوش رغم عبور

نجم خاطف في السماء حينذاك، رأت فيه احْتِمال نبأ مخيف يطرق

الباب كما هو الاعتقاد الساري لدى سكان الحي، ترسخ خلال

سنوات ارتفاع أعداد وفيات البحر فريسة أسماك القرش، أو جوعاً

ومرضاً على اليابسة، كانت سنوات عجاف أصاب الهزال البهائم

والبشر، هبط الناس إلى قاع الدنيا وهم يأملون صد الموت الآتي

من كل النواحي، ورغم هذا الخوف الشديد ظل الرجال يسرفون في

مطاردة النساء وكأن الشهوة تنسيهم شبح الموت.

«جوري ..»

جاءها النِداء المتوقع عند المغيب عادة، قد يتأخر حتى هبوط

الظلام وقد يفاجئها بأي لحظة مظلمة. فالوقت عند رقية الكفيفة

يتساوى فيه الليل والنهار، أيَقنَت أن الومضة الباردة من حولها مع

نكهة عبير ورق الشجر توشك على الرحيل، أيقظ صوت العجوز

سكونها الداخلي المتأمل، وأطْفَأ شعلة نرجس.

«نعم عمة

لم يكن هناك داعٍ للنداء فقد زحفت المرأة بقدميها تدفع جسدها

الهزيل نحو الفناء تسبقها يدها في الهواء كأنها تُبَدد الحواجز من

أمامها، كانت ترتدي فستاناً طويلاً قطنياً مطرزاً عند الحواف وفوقه

قطعة قماش عريضة غطت الكتفين والظهر، وكانت حافية القدمين،

قطعت المسافة وسط سكون الأشياء من حولها حتى كادت تصل

عند قدمي جوري على العتبة.

71

خريف الكرز

«من زارك اليوم؟

تساءلت في سرها «لم الموت ينشر ظله على الجميع وينسى

هذه الكومة؟ » ما لَبثَت أن اسْتَغفرت ربها وهي تبتسم على هذه

الخاطرة العابرة، كانت تشعر باليأس من زوجها راشد الذي تكن

له الود والشفقة، وتأمل عودته حياً ليعتني بالعجوز وفي الوقت

نفسه تشعر بالتقزز كلما حان وقت المضاجعة التي ترى فيها انْتهاكاً

لجسدها الذي يتوق إلى شيء آخر لا تستطيع البوح به لأحد غير

ذاتها، بين الزهد في الجسد وبيعه بالمال تَرجَحت بوصلتها الذاتية،

كحالها الآن وهي تتأمل رقية العمياء تسحب نفسها كلما تناهى

لها صوت حتى لو كان دبيب النمل، تحاصرها حتى النخاع وفي

المقابل هي تستغل الظلمة الحالكة التي عليها لتجعل من المنزل

مخبأً للأسرار ومقصداً ينتجع فيه زوار العتمة، تكرهها حين تلاحقها

بالأسئلة والشكوك وإيحاءات التدليس، هي تدرك أنها تُضلل العجوز

ولكنها مُجْبَرة، من هنا تشعر بالشفقة نحوها ومن جهة أُخرى تود لو

تخنقها حين تقحم نفسها في أوقات خانقة «لو تعلم من أين أطعمها

وأكسوها طوال الوقت لغفرت لي، لكنها لا تعلم، أنا أعلم، الله

يعلم

تناهى من بعد صوت الأذان يحفه تيار الهواء فيتقطع صداه في

الأرجاء، دخل وقت العِشاء، تسمع بعض الأصوات الرجالية خارجاً

متجهين إلى المسجد، مع اخْتفاء الأذان اقْتَربَت رقية من فتاتها قائلة

تحثها بلهجة آمرة لكنها لم تخلُ من مسحة هدوء مفتعل:

72

خريف الكرز

«توضئي وصلي وتوجهي بالدعاء لعودة زوجك سالماً

نهضت وأسرعت بدخول الغرفة، تركت المرأة وحدها تتعرض

لنسمات الهواء تداعب وشاحها الأبيض الخفيف منسدلاً على طرف

رأسها وغطى جزءاً من شعرها الأحمر بلون الحِناء، وجزء منه على

جانب من وجهها.

بدت امرأة وحيدة تشبه سفينة حائرة تجرفها الرياح في مياه

هادئة، يحيط بها ضوء ضئيل تدرك مقداره خارج أوقات الليل

والنهار، اسْتَسلَمت لبرد خفيف يلامس بشرتها اليابسة ذات التشققات

الزمنية ما يوحي بما تعرضت له من أهوال الدنيا، بدت كريشة خفيفة

عمرها أكثر من ستين عاماً يقذفها الهواء وحيدة بدون شراع ولكنها

في داخلها شعرت بأن الدنيا خضعت لها وسلمتها سعادة غامرة

اجتاحتها في لحظة تمازج النسمات بالضوء الشاحب ورائحة منبعثة

من بعيد لأسماك تشوى على الخشب.

«سبحانك يا خالق الدنيا

قالت العبارة ورفعت رأسها إلى السماء تعد النجوم كعادتها

في بعض الليالي التي تشعر فيها بسعادة غامرة، رددت العبارة مرات

أُخرى وهي قابعة على العتبة في الفناء، حيث فاحت رائحة الشجر

والشواء على السواء.

سبحان من خلق الدنيا.

***

“حين تشرق شمس قلبي في صحراء امرأة، أعلم بأن ظلالها حارقة”



from WordPress دار لوتس للنشر
via IFTTT

Comments

Popular posts from this blog

رؤية معاكسة ضد تيار المقاطعة!

?What is the story of the British yusra