إعصار عُمان .. ورد بالحرف والتفاصيل رد في رواية “حرب البنفسج”

إعصار عُمان .. ورد بالحرف والتفاصيل في رواية “حرب البنفسج”

مقطع من رواية “حرب البنفسج” من صور بعُمان

المبعوث

 

كانت ظهيرة يوم جمعة وصفها البعض من سكان المدينة بأنها جمعة مباركة رغم أن السماء الساخطة سفكت فيها عنفوانها وهديرها بلا كلل من أمطارٍ غزيرةٍ رمادية اللون متواصلة بلا إعياء، عطلت فيه المرفأ بأطرافه الخشبية والحجرية وأغرقت معظم أجزائه بحممٍ من مياهٍ بدت قطراتها أكبر حجماً من المعتاد، كأنها حجارة تركت ندوباً على الممتلكات وأصابت رؤوس البشر بشظاياها، كل شبر من صور غرق مع حلول المساء حتى بدت المدينة أشبه بمركبٍ يسبح في محيطٍ هائجٍ، كان ذلك إيذاناً بشتاءٍ زمهريرٍ، توقفت معه كل مشاريع وخطط سفن ومراكب صور في الإبحار، وتعطلت رحلات الصيد والتجارة بين الولايات. وحدها حملة سليمان السليط ذئب البحر المرتقبة، ظل الحديث عن تحضيراتها متردداً في الأرجاء، كانت الاستعدادات للإبحار على قدمٍ وساق رغم هذه السيول التي اجتاحت المنطقة، ثمة إعلان تردد عن اجتماعات عُقِدت بين سليمان السليط والرئيس داود لنج لم يتسرب عنها شيءٌ للعامة، سلط جنود الحامية الملكية البريطانية جواسيسهم في أرجاء الساحل العماني وراحت دوريات من مراكب الحراسة تجول الشواطئ لدى انتشار تهديد بوجود جنود أتراك تسللوا من البحر، لكن سرعان ما توقفت تلك الدوريات لدى اشتداد هدير الأمطار وعصف الرياح، سالت السيول وأغرقت المنازل والأكواخ فر في أثرها حاملو المشاعل من محيط الرقعة المسكونة بعد أن أطفأتها المياه وغرق السكان حتى أضحت بيوتهم بركاً سبحت فيها حاجياتهم التي اكتسحتها المياه. كانت الطرقات المختلفة المؤدية نحو الأحياء والمناطق قد سُدت بالمستنقعات الغزيرة وفاضت مستنقعات المياه العكرة على مختلف الطرق، أُغْلِقت الدكاكين الصغيرة والمخازن الكبيرة عقب تسرب المياه والأوحال إلى داخلها وأتلفت البضائع وأَلَمَ الحزن بأصحابها وعَزوا أنفسهم بتعويض السلطان لهم بعد هدوء الحالة حالما يتوجهون إليه بشكواهم لديوانه إثر خسائرهم الفادحة. ردد الناس بعضهم عبارات الشكر لله فيما تبرم غالبيتهم واعتبروا ما وقع غضباً من الله ذاته الذي شكر بعضهم إياه، كانت الألسنة تلوذ بالدعاء وبالسباب، فمن خسر وهاج وماج، ومن داهن وراوغ وشكر الله وحمده من أصحاب البساتين والمزارع الذين بدورهم سرعان ما انقلبوا وعادوا يشتمون إثر تواصل الأمطار لأيامٍ عدة ما أتلف محاصيلهم.

كانت فصول الشتاء عادةً تحد من انطلاق سفن الصيد والتجارة الصغيرة إلى البحار، باستثناء السفن العملاقة التي يسيرها عشرات البحارة بل أحيانا بالمئات وتدفعها مع الريح عدة أشرعة فارعة، وهي سفن توازي سفن بحرية البرتغاليين والأتراك والإنجليز التي لا تتوقف عن مخر البحار والمحيطات طوال العام، تغير الوضع هذا الموسم مع موجة هذا الشتاء وما تلاها من طوفان متواصلٍ أدى بالمقابل لكبح هجمات القراصنة، باستثناء نشاطهم على السواحل إذ لم يعبأوا بالأمطار والرياح فراحوا يجوبون أطراف السواحل بحثاً عن سفن تائهة جرفتها الرياح لسلبها في غياب حماية سفن الملكية البريطانية التي توقفت مؤقتاً عن الإبحار. وسط هذا المناخ الملبد بالارتباك والفوضى دار الحديث في جانب من الساحل عن تحضيرات دقيقة وسرية يقوم بها في الخفاء رجال سليمان السليط من أجل استغلال هذه الأجواء والانطلاق وحده كما اعتاد دائماً وسط هذا المناخ المشوب بالحذر والتوجس لتخلو له البحار ويفعل ما يشاء، كانت تلك التفسيرات التي لاكتها الألسن في المقاهي التي فتحت أبوابها رغم زمهرير البرد وعصف الرياح الشمالية وقد أحدثت الدمار هي والأمطار المجنونة التي ظلت تهدر بلا توقف وأغرقت كل شيء صبّت غضبها عليه وعطلت كل شيء يتحرك.

 

 

****

 

تدفق الهمس في بيت قيس اليمامي الذي لم تتأثر داره بالأمطار ما عدا الفناء الذي غرق في المياه، وتعالت الهواجس حول شائعات عدة تسفك هنا وهناك وفي الأرجاء دون سند يذكر. أطل عددٌ من الرجال الثرثارين راحوا يزيحون المياه العكرة عن الفناء ويسوون الأرض السبخة كلما غاصت في الوحل. في هذه الليلة المظلمة التي خف فيها هدير المطر، صادف في غفلةٍ من الناس تسلل رجل غامض يمتطي بغلاً لم يبالِ برشق المطر له، حاملاً فوق رأسه مظلةً سوداء تقيه رذاذ المطر الذي خف قليلاً بعد أن نكص هديره المدرار، كان متوسط القامة وقصير العنق، معتدل الوزن، منتفخ البطن تدلت أردافه من بين ملابسه الثقيلة المكونة من دشداشتين ارتداهما فوق بعضهما بالإضافة إلى كنزةٍ منسوجة يدوياً من خيوط الصوف زرقاء اللون، أحاطت برأسه ربطة ملفوفة غطت الأذنين، برز وجهه متورداً من شدة البرد ولاحت عليه العجلة ونفاذ الصبر وهو يحث البغل للإسراع بركله بكلتا قدميه أسفل بطن الحيوان الذي غرق بمياه المطر، لم تكن الليلة المظلمة مقمرة كما العادة فقد سدت الغيوم الكثيفة قرص القمر وراحت تخفي ضوءه بين فينة وأخرى. شق الرجل طريقه الموحل وسط العتمة لمعرفته السابقة بالمكان. كان الهدوء يسود الطريق المتعرج نحو دار اليمامي وخلا من أية أصواتٍ للقطط والكلاب التي دفنها البرد في الخرائب والجحور، لم يسمع شيئاً سوى صوت خفيف لرذاذ المطر وهو يتساقط على المستنقعات والبرك التي ملأت الطرق الترابية وحولتها وحلاً شنيعاً.

حين بلغ الرجل المبلل رغم المظلة التي على رأسه، الباب الخارجي الفسيح ذا النقوش الملونة والمطرزة بالأشكال الغريبة والذي كان مفتوحاً من أحد طرفيه وموصداً من الأخرى، توقف لوهلة حين لمح ثلاثة رجال ضخام شديدي البأس، اثنان منهم ملونان والآخر داكن البشرة يزيحون المياه عن الفناء فيما تولى شاب آخر هو الرابع إزاحة المياه بواسطة برميل كبير ثقيل الوزن كما بدا وهو يجره نحو الخارج عبر فتحة الباب، وانتصب الخامس ذو الرأس الكبير المدور والجثة المكتنزة منتظراً بجانب الباب الداخلي يحرسه، ظهر وكأنه بانتظار الرجل القادم للتو الذي ما إن اقبل نحو الباب الخارجي وقبل أن يدلف منه، قام بلف وجهه بقطعةٍ من قماشٍ مستطيلة من الشال متعددة الألوان كانت على كتفه، مخفياً وجهه على ما يبدو حتى لا يتعرف عليه أحد. حين بلغ منتصف الفناء ترجل من فوق بغله، لمحه الآخر الذي كان مرتدياً دشداشة سميكة تعلوها كنزة مخططة وعصبة على رأسه، توجه نحوه مسرعاً غير مبالٍ بالرذاذ، أخذ منه البغل جانباً ثم قاده نحو الباب الداخلي بعد أن شمر الاثنان عن ثيابهما من الأسفل حتى لا تتلطخ بالوحل الذي ما زالت هناك بقاياه. كان الرجل القادم على البغل يسير بخطوات حذرة خشية السقوط فيما بدا حذاؤه البني اللون وقد تلطخ بالماء والتراب حتى إنه شعر بثقله في قدميه اللتين بدتا كبيرتين تفوقان حجم جسمه. ولج بخطى بطيئة ثابتة المجلس المستطيل الذي خلا في تلك الساعة بالليل من الرواد وساده سكون رتيب أشاعه ضوء القنديل الشاحب الذي توزع على جانبي المكان، خرج المرافق وجلس القادم على كنبة أرضية متنفساً الصعداء ليباغته صوت خطوات قادمة ما جعله يتهيأ في وضعه وهو ما زال بالأرض، لدى اقتحام قيس اليمامي المجلس وكان مرتدياً فوق ملابسه عباءةً سوداء سميكة تقيه البرد، وعصبة ملونة فوق رأسه. فك الرجل القادم وهو ينهض شاله عن وجهه فلاح الوجه برونزياً مدوراً، وبانت عيناه طويلتين مكحلتين سرعان ما كشفت ابتسامة الترحيب التي أبداها عن أسنانه غير المنتظمة وقد فقد إحداها في جانبه الأيسر، تبادل الرجلان العناق ثم جلسا في صدر الزاوية المضاءة من المكان واستمر الترحيب والسؤال فيما بينهما حول الطقس والخراب والخسائر التي خلفتها الأمطار وما إذا سيعاود الطوفان ضربته. كان الحديث بينهما مقدمةً على ما يبدو قبل البدء في التعمق بالموضوع الهام والخطير الذي أجبر الرجل الزائر على التسلل ليلاً خفية على صهوة بغله في هذا البرد القارص والمطر المنهمر، لولا أن هناك مهمة بينهما. حين بلغ حديث المقدمة مداه، انتصب قيس اليمامي الذي بدت عيناه ناعستين وتوجه خارجا بعد أن اعتذر من الزائر بهزة من رأسه دون عبارة، كان المجلس على عادته يحتويه الأثاث التقليدي ويحيط به السكون فيما عدا سلةً كبيرة مطرزة ومنتفخة في ركنٍ منه، كما برزت في ركنٍ آخر معتم بعض الشيء دراجة غريبة بعجلتين مدورتين لم يسبق للقادم أن رأى مثلها من قبل، ركز عيناه عليها كما لو كان يأمل باكتشاف ماهيتها ولكنه صرف النظر عنها حالما دلف اليمامي حاملاً منقلاً مستطيلاً من طرفيه وقد برزت منه كومة الجمر المشتعل، وضعه بجانب الرجل وعاد أدراجه نحو الباب الذي كان مفتوحاً من طرفٍ واحد فيما برز ظل أحد الرجال خلفه يقف بحذر حتى لا يتعرف على وجه الزائر بتوجيهٍ من اليمامي الذي عاد مرة أخرى حاملاً صينية عليها بعض الطعام المكون من ثريد الخبز وصحناً من التمر مع جرة صغيرة للماء وكأسين معدنيين، وحالما اقترب اليمامي نهض الزائر محاولاً مساعدة الآخر في استلام الصينية غير أن اليمامي وضعها بسرعة مقدرا للزائر مبادرته بإشارة من رأسه، حينما أشار له ببدء تناول الطعام كان الرجل القادم يدفئ يده على منقل الجمر أمامه، بينما لوح اليمامي له بالبدء في الأكل مشجعاً إياه بتناوله تمرةً من أمامه.

“اقترح عليك أن تنام الليلة هنا فالسماء بدت تزمجر ولا يَجْدر بك العودة في هذا الطقس الضاري.

قال اليمامي عبارته مقدراً للزائر خطوته بالمجيء رغم أن الآخر لم يفتح بعد باب الكلام إلى لب المهمة، كان قيس الخزعلي اليمامي الذي عُرف في أوساط صور بعلاقته الوطيدة بالبلاط السلطاني إلا أنه لم يكن من الحاشية المستعلية كما كثيرين في البلاد، كانت علاقته بالناس قريبة وبعيدة بذات الوقت، ففي أوقات يكون فيها لطيفاً ومهذباً إذا كان الموقف له علاقة بأحد الأعيان والوجهاء، ويكون خشناً وجافاً إذا كان أمام العامة أو الرعاع كما يُطلق عليهم هو ذاته حينما يتعلق ببعض المهمشين أو المتمردين على أوامر السلطان، وغالباً ما يكون بين الاثنين بحسب الحالة التي يتطلبها الموقف، ففي هذا الليلة القاسية العويصة فتح بابه للرجل الذي تسلم رسالةً من أحد أعوانه تبلغه بأن ثمة أمراً عاجلاً وخطيراً يتطلب رؤية المبعوث الذي كل ما فهم عنه أنه من طرف شخصية مهمة لم يفصح عنها المرسال، وصاغها بضرورة أن تكون الليلة وقبل طلوع الفجر، من هنا جاءت دهشة اليمامي من الزائر الذي ظل حتى الآن لم يبح بما حمله على المجيء المستعجل والخطير، وأخيراً لم يجد المضيف بداً من طرق الموضوع المكتوم عندما أحس بالنعاس يكاد يسرقه.

“حتى الآن لم أسألك عن اسمك الكريم، لأن الأمر يعود إليك تفضل، ولأنني لم أسمع بعد منك الرسالة.

تجلت نبرة اليمامي دمثة وباردة، خالية من التكلف، فيما تحرك الزائر وهو في مكانه تاركاً يده اليمنى بتلقائية تمسح على فخذه وغدت عيناه تحدقان في اليمامي الذي شعر بوخز تلك النظرة تغدو شرسة المحتوى، حزر منها التهديد نحوه قبل أن تأتي الرسالة وإن لم يكن واثقاً من هذا الشعور، وربما تكون مجرد تخمين مصدره إيحاءٌ كاذب وأن هذه النظرة عفوية من القادم، لا تنم عن أي تهويل، تنحنح الزائر وقال بلهجة فاترة ونبرة بطيئة وهو يفرك ذقنه بيده اليمنى.

“لن يعرف أحدٌ في البلد ولا حتى السلطان ذاته بقدومي إليك، وستبقى الرسالة ومصدرها طي الكتمان حتى قيام الساعة، وإلا لن تكون بي حاجة للبوح بها.

أطلت الحيرة على وجه اليمامي وتبدلت ملامح وجهه واكتست جديةً وأبدى اعتراضه الافتراضي على هذا الخيار الذي ساقه الزائر مقدماً كأنه يفرض شرطاً قبل الأوان، سرح لبرهة ثم نطق مبتسماً محاولة التخفيف على ما يبدو من تشنج ملامح وجه الزائر ونبرته الباردة.

“ماذا فرضاً لو أنك جئت تطلبني للانقلاب على السلطان، فهل يعني ذلك كتماني الأمر..؟

صمت لحظة، عدل ببطء من ياقة دشداشته ثم استدرك وهو يحرك إصبعه تجاه السقف.

“الله يرى ويسمع ولن يكون ما جئت من أجله سراً بيننا، فإذا كان الله يعلم فإذن هو ليس بالكتمان.

شد الزائر ظهره نحو الخلف وقد بدت عليه سمات التعب الأقرب للوهن، مد رجله للأمام وقد شعر بالتنمل يتسرب لقدمه، ابتسم بدوره وزال عنه العبوس وبدا مسترخياً فجأةً حين قال بذات نبرة البرود.

“لا أمانع أن يعلم الله، ولا اطلب الانقلاب على السلطان حاشى الله، لسنا طامعين في سلطة أو حكم، بل جل ما جئت من أجله وهو بمقدورك سيد قيس أن تقدمه، أن تأتي بأحد أختام السلطان وهذه نفحة منك للمهيب سيد البحار سليمان بن أحمد السليط الهلالي.

جحظت عينا اليمامي من رأسه وقفز من مكانه كأنه أصيب بمسٍ وتساءل بنبرة عجب ودهشة وقد زالت آثار النعاس فجأة عن ملامحه.

“ذئب البحر؟

“هذا لقبه عند العامة يا سيد قيس لكنه لا يفضل هذه الكنية ويكره أن يُسَمى بها، لكن لا يغضبه أن يرددها العامة والغوغاء.

ساد صمت لوهلة خلا فيه اليمامي للتفكير فيما راح الزائر يلعب بإصبع قدمه وكأنه يدلكه، ثم مد إصبعه نحو أنفه وراح يشتمه.

“وكيف أثق بأنك من طرف ذئب البحر السليط؟

ابتسم الزائر ابتسامة دَلَت على رضاه وارتياحه من سؤال الآخر الذي ربما أوحى له بتقبل الطلب.

“أنا أمامك سعيد بن هلال العمري، وأقول لك بوضوحٍ شديد بإمكانك أن تسلم الختم للسيد سليمان ذاته.

“لكني لا أعرف شكله فمن يضمن أنه هو؟

“حالما تراه ستعرفه بفطرتك، لا أحد رآه ولم يعرف أنه هو. من يعلم قد يكون في الطريق إلى هنا ولا يؤخره سوى موافقتك على الأمر.

بدا صوت المطر في الخارج يؤذن باشتداده، لحظات رتيبة ساكنة وزمجر بوق الرعد يعلن عن بدء ليلة عاصية بوادرها هذا الصوت الجسيم الذي سرعان ما صاحبه ضوء البرق شرساً شق السماء.

“لن تغادر هذه الليلة يا سيد العمري وستنام عندي هنا وعند الصباح سأعطيك كلمتي، لكن قبل ذلك ما أهمية ختم السلطان للشيخ سليمان؟

راح صوت الرعد المجلجل يقاطع بتنافر حديث الرجلين ما دفع الزائر لرفع صوته رغم احتفاظه بنبرته الباردة.

“أنا أثق بك يا سيد قيس وكذلك الشيخ الرئيس سليمان الذي يكن لك حقاً التقدير، وأنا جئت هذه الليلة رغم ما فيها من مكابدة لأن الشيخ سيبحر خلال ساعاتٍ وهو يريد الختم لغرض الخير في رحلته التي لن اخفي عنك أنها للبحرين ومعه حمولة بشريه هدية لشيخ البحرين وهذا الختم لن يُسْتَخدم إلا في حالة الضرورة القصوى لعبور حدود البحر..

أمسك مبعوث ذئب البحر لوهلة عن الكلام، التقط نفسه ثم استطرد وقد عاد لنبرة التهديد الأولى التي ثبت هذه المرة مضمونها للآخر.

“لقد أطلعتك للتو على سر سيد البحار وهو سرٌ جسيم كما تبصر وتقيم، وأصبحت بذلك أول من عرف مهمته الجسورة وهذه ثقة متهورة مني، لو حدث وذاع الخبر بين الناس سيقطع الرجل رأسي دون رأفة برغم ما بيني وبينه.

أحس اليمامي أن المبعوث الزائر تعمد إفشاء الخبر بهذا التفصيل حتى يوقع به ويجبره بالضغط عليه للتورط معه قسراً، أدرك مدى ذكاء وكياسة الرجل الذي جاء ملطخاً بالماء والوحل على البغل وكأنه واحداً من عمال المرفأ، لم يعد يسمع صوت الرجال في الخارج فيما بدا انسحابهم من فناء الدار بعد اشتداد المطر والرعد، كانت الليلة في الخارج كالليالي السابقة التي توالت خلالها العاصفة وتمادت السماء في غضبها حينما راجت الشائعات بين العامة عن علامات القيامة. كان شعور قيس اليمامي مزيجاً من غضب مكتوم وفضول يوحي برغبة في التعرف على ذئب البحر الذي شاع عنه حماية وكفالة كل من يتعاون معه حتى إنه هدد مراتٍ عدة حكام المشيخات بمن فيهم السلطان، لسطوته وبطشه حين يغضب، على اليابسة أو في البحار الواسعة التي يمخرها طوال السنة متكلاً على أتباعه الذين يبلغون الآلاف، مع علاقاته المتعددة ببعض الأطراف الأجنبية المنافسة كالإنجليز والبرتغاليين والفرس.

“نم الليلة وغداً لنا حديث.

“أبداً، المهيب ينتظر جوابي الليلة.

قال جملته بحسمٍ وصرامة قطعت الطريق على أي مناورة لليمامي الذي رد متسائلاً بدهشة متعمدة.

” الليلة يا سيد سعيد؟

بذات نبرة الصرامة رد المبعوث العمري.

“نحن رجال سليمان لا يعني لنا شيء هذا المناخ، بعد غدٍ ستلقانا في أتون البحر نركب هذه العاصفة إخوةً لها.

في غضون هذا الحديث الجلي بينهما، سرح اليمامي في خيطٍ رقيقٍ من مياه المطر راح يسيل من حافة السقف الجانبية، لمحه بينما كان الآخر يتململ في مكانه، ظلت صينية الطعام مكشوفة دون أن يرغب احدهما في الأكل عقب ما جرى بينهما من حديث صريح تلا المقدمات، راح اليمامي يتدثر بعباءته السوداء التي سقطت من على جانب كتفه اليمنى فيما أطلق الآخر تنهيدة علامة تململه من مراوغة اليمامي الذي خطرت في باله خاطرة بينما كان يرمق خيط الماء، فسارع وقطع الصمت بينهما قائلاً وقد تفتق ذهنه على فكرة أوحت له مخرجاً مؤقتاً.

“هل من الضرورة القصوى أن يأتي الختم من دار السلطان ذاته؟ قد يبدو لي ذلك صعباً نظراً لاحتكار عددٍ محدود من الحاشية له، يمكنني تدبر مثيلٍ ولن يخطئ الناظر فيه.

“عليك أن تسلمه بنفسك للمهيب السليط.

حينما نهض الرجل، انتصب اليمامي قائلاً.

“إذن أنت مصمم على الرحيل؟

رد الزائر بنبرته الباردة الحازمة.

“سيسدد المهيب ذات يومٍ الجميل إليك تكون حينها بأمس الحاجة إليه.

“وكيف سألقاه؟

قهقه العمري وبدت على ملامحه الخيلاء وقال بزهوٍ وهو يداعب إصبع يده الأيسر وقد برز ظفره الطويل الحاد كمخلب صقر.

“هو الآن في الطريق إلى هنا ويوشك أن يصل، لا تنم يا سيد قيس.

“هل هو ساحر؟

“هو أدرك بفراسته الغيبية أنك ستوافق في آخر المطاف دون ضيم وقرر المجيء ورائي لأمهد للقاء، كما أنه يعلم بأنك أحد الذين يحتفظون بختم السلطان في منزلك وقد حدث وختمت بعض المصالح من هنا.

فتح اليمامي فاهه واسعاً وتورد وجهه مصحوباً بذهول واضح، وضع يده على جبينه وقال بدون أن يتظاهر بالدهشة.

“هو إذن ذئب البحر.

قبل أن يبلغ سعيد العمري الباب، تناول شاله ووضعه بعنايةٍ على رأسه، رد بصوته البارد كَبَرد السماء.

“هو أيضاً أسد اليابسة ورعد السماء.

فجأة دوى صوت انفجار هائل بدا وكأن السماء انشقت وسقطت شظاياها على الأرض، فارتج المكان وعلا صوت الرجال في الخارج.

“قال اليمامي وقد توهج وجهه وغارت عيناه.

“لن تغادر.

قهقه العمري الذي وقف حائراً دون أن يتقدم خطوة من الباب فيما لا يزال ارتجاج الأرض قائماً.

“سأنتظر إذن مجيء المهيب.

****

 

لم يتوقف المطر، بل أنافت من حدته وسرعته القصوى الرياح الضارية التي تفشت في الأرجاء وعزلت السكان عن بعضهم بعضاً وحصرتهم كأسماك مجففة في منازلهم سجناء الليل والنهار، كانت الليلة الدامية قد اخفت الجميع وراء جدران بيوتهم المثقوبة يعالجون تسرب المياه وتهتك الطين والحجارة وانهيار الأكواخ، لم تعد هناك في الطرق الوعرة كلاب أو قطط، لا يُعْرف أين دفنت نفسها، خيمت السيول على المنطقة برمتها فتجمدت الحركة في الأرجاء. في هذه الأثناء انتقل الرجلان في المجلس لغرفة أخرى مقابلة بدت أشبه بغرفةٍ للنوم واسعة الحيز بعد أن ثُقبت إحدى النوافذ في جانبٍ من المجلس فانتقلا على إثرها إلى هناك حالما تسللت الأمطار للمكان ومعها الرياح الشديدة التي عصفت بمحتويات المجلس الخفيفة.

“من المستحيل في هذا الطوفان أن يخرج المهيب.

قال اليمامي عبارته عقب عودته مباشرة بعد تفقد الرجال والفناء وباقي أرجاء المنزل الذي يبدو أنه تضرر قليلاً في بعضٍ من أركانه. رأى سخط الطبيعة وقد أفرغت بحنقٍ ما بجوفها رغبةً في التنفيس عن كبتها الطويل الدامي، استنبط الرجل أن طوفان صور السنوي بلغ مداه، كان الناس قد اعتادوا في مثل هذا الموسم على زمهرير وعواصف وطوفان يغمر ربوع عُمان من البحر إلى البحر، وحتى الساعة لم يصل الأمر كما يلوح ذروته في الفيضان العارم الذي يكتسح المنازل والطرق ويقتحم البيوت الكبيرة والصغيرة كما اعتادوا كل سنة تقريباً، فطن السكان إلى أن موعد الطوفان من خلال هذه المقدمات الوخيمة قد حان وليست هذه الإشارات الواردة مع هذه العاصفة الرعناء سوى برهان على طوفان في الأفق قادم، هذا ما لمسه قيس اليمامي وقد عاد للزائر للتو بعد أن تفقد المكان ورأى ما جرى هناك وجعله غير مصدق مجيء ذئب البحر في هذا الميقات، مهما بانت الثقة على وجه المبعوث الذي بدا له كلامه كالخبل، لاشك أنه خرف حتى يتفوه بهذا الإصرار على مجيء السليط ذاته مهما كان سحره وبأسه، فما يجري الوهلة يفوق السحر.

” أكون أحمقَ إن صدقت هذا الأحمق”

أعرب بشيءٍ من التوجس عن ذلك في سره وهو يتأمل وجه الزائر الذي بدا له قانطاً مما عزز حدسه في النهاية على أن هذا القابع هنا ما هو إلا مخادع أو أصابه مَس.

“هل أخفوا البغل في مكانٍ آمن؟

ابتسم اليمامي من وراء الزائر وقال وهو ما زال واقفاً وقد تبللت أطراف ملابسه.

“لا تدر بالاً، سأذهب لتفقد أهلي في أرجاء الغرف وأنصحك بالنوم حتى الصباح لأن ما هو قادم أشنع مما يجول الآن.

“سيصل حالاَ.

“أرعن”

قالها في داخله وخرج تاركاً العمري متدثراً في المكان وحده.

 

 

****

 

كان هدير المياه في الخارج مع صفير الريح كأنها أمواج البحر هاجت، مع خلو الطرقات من أي حركة، باستثناء بعض قطع صغيرة تطايرت في الهواء، انْجلاء من على بعدٍ في الأفق عن، ثلاثة أحصنة عملاقة مفتولة العضلات شقت طريقها وسط ظلمة الكون الحالكة وضباب الأفق المخيم، كان في المقدمة أحد الرجال وقد ارتدى واقياً جلدياً وحمل بيده فانوساً مضاء وقد غطى أعلاه برقعة من الجلد تحميه من المطر، كان الرجل يتقدم الحصانين الآخرين اللذين انجرفا بالسرعة ذاتها وقد ارتدا الاثنان رداءين واقيين من المطر، علت أصوات حوافر الخيول الثلاثة في برك الماء وأحدثت شرخاً مدوياً كسر السكون المخيم على الطريق قبل بزوغ الفرسان الثلاثة، تبددت كتل الوحل في الهواء من تحت الحوافر التي شطحت وهي تصعد وتهبط في الهواء وقد تشتت مياه المطر من حولها. حين توقف الثلاثة أمام الباب الذي كانت أخشابه اختفت ألوانها في العتمة، راح الهواء يحرك طرفي الباب اللذين شُدا بالحبال دون جدوى، ترجل أحد الرجال ودلف وسط هول العاصفة نحو الدار، خاض في مياه الفناء حتى بلغ المصطبة الأمامية من المنزل والتي تحلق حولها بعض الرجال الذين حالما لمحوا خطواته تهيئوا في وقفتهم، حينما صعد إلى العتبة خفض يديه اللتين حملتا الواقي على رأسه ووضعه جانباً، نظر في وجوه الرجال الذين ما إن تقدموا منه حتى لمحوا رجلاً آخر دلف الفناء على صهوة حصانه فيما تبعه رجل آخر حمل فانوس الضوء ممهداً له الطريق وسط دهشة رجال اليمامي الخمسة الذين صفعهم الذهول من قدوم هؤلاء بهذا الطقس الدامي.

“أبلغوا رب الدار أن لديه ضيفاً بالباب.

حين بلغ الخبر قيس اليمامي الذي كان وقتها بغرفة نومه يتهيأ للنوم متدثراً بدشداشةٍ واسعة سميكة بعد أن خلع ملابسه، كانت إلى جانبه امرأته التي قفزت مذعورةً من نومها حالما سمعت طرقاً على الباب ليفاجأ بأحد رجاله مبللاً وقد بدا متوتراً وهو يعتذر له بنبرة تبرر تطفله في هذا الوقت، قاطعاً ممرات ودهاليز المنزل ليصل غرفة نومه ملطخاً بالوحل معلناً له بصوتٍ راجف عن وصول ثلاثة فرسان. تجمد الآخر لوهلة في مكانه ثم طرد الرجل عن وجهه بإشارةٍ من يده وقد تملكه الذهول الذي سرعان ما تحول إلى قلقٍ جعله يسرع بارتداء كنزته وسط نظرة المرأة الجامدة أمامه وهي لا تجرؤ على الكلام، اكتفت بنظرات صارمة متسائلة عن سر هذه الليلة، كان وجهها البرونزي البشرة مشوباً بالقلق وشعرها الأسود الطويل انسل على جبينها بعد أن تركته حراً، كشف عن وجه فاتن رغم عمرها الثلاثيني مقارنةً بعمر الرجل الذي بدا في الستين، كانت تنظر إليه بعينين عسليتين ناعستين وهي تقف مرتديةً دشداشة نسائية سميكة وقد راحت ترتجف برداً فيما صوت الرياح في الخارج تناهى للغرفة، كانت ترقبه وهو يرتدي ملابسه على عجل بصمتٍ دون تعليق منها، وقبل أن يخرج التفت نحوها وأشار لها بيده.

“عودي لفراشك.

 

****

 



from WordPress دار لوتس للنشر
via IFTTT

Comments

Popular posts from this blog

رؤية معاكسة ضد تيار المقاطعة!