من الإصلاح إلى الانقلاب؟!



من الإصلاح إلى الانقلاب؟!



ما أشبه الليلةَ بالبارحة، وما أشبه الإصلاح بالانقلاب، هذا هو عنوان هذا الفصل المحير حقاً من السيرة السياسية، وهو بذات اللحظة ينطبق عنواناً جسوراً بدون عمليات مونتاج للمرحلة إعلان مشروع مبادئ ميثاق العمل الوطني وبدء رحلة العذاب السادية العلنية بالعمل السياسي المفرط في الرومانسية، والذي سرعان ما انفرط عقده وتحول إلى إثارة ورعب، ثم انزلق بعجرفة ثواره الحالمين في بياتٍ شتوي ناهز خمسة عشرة سنة عجاف إذا ما أخذنا بربط التفاصيل بعضها بعضاً من بداية المشروع الإصلاحي الذي سبب الجنون للكثيرين غير المصدقين الثورة السلمية التي قادها الملك، حتى بلغنا المشروع التخريبي ثم الانقلابي إلى أن أدركنا بحسرة النتيجة السريالية وقد أدت بأسى وحزن إلى محنة الدوار المريع في 14 فبراير 2011. ولأبد من العودة للبداية لتركيب قطع الدومينو التي بدأت بقطعة خربة تلتها بقية القطع التي تهرأت ثم انساقت في التساقط وكشفت عن هول الخيال الواسع الذي عاش فيه ثوار القرون الوسطى المقنعون وهم يحصدون ثمار ثورة فردوسهم عنباً مراً لا يمكن تسويقه ولا أكله ولا حتى عصره نبيذاً، إلى أن أضحى في خاتمة حفلتهم الرومانسية سماً زعافاً صرع كل من تجرعه بمرارة، من جمعيات سياسة وجنرالات استراتجيين! وبالطبع من لحق بهم من الخراف الضالة.
ماذا لو تأجلت افتراضاً الإصلاحات السياسية المفاجأة التي أُعْلنت قسراً وقبل ألأوان وبصورة دراماتيكية صدمت المنطقة برمتها شعوباً وحكاماً، من العام 2001 إلى عام 2011؟ ماذا لو تمت تلك الإصلاحات في مرحلة ما سمي بالربيع العربي متجاهلين تماماً تلك الأعمال التدميرية في التسعينات من القرن الماضي ومنحت فسحة زمنية وتكتيكية بدلاً من الانزلاق في إصلاحات مستعجلة وقبل الأوان، وضفتها القوى الانقلابية ورافقها تخطيط منظم ومدروس واكب وتزامن مع المحاولات الإيرانية ثم القطرية بتفجير الوضع في البحرين من الداخل، فقد اغتنمت إيران ومعها بالطبع قطر كما صدمنا بعد ذلك فرصتهما في تلك الإصلاحات للدفع بطوابيرهما وخلاياهما النائمة لاقتناص تلك الفرصة التاريخية والولوج لمفاصل الدولة بحجة المشاركة السياسية وتأسيس الجمعيات الانقلابية وفرض المراجع الدينية وإطلاق معول الهدم منذ تلك الساعة حتى هذه الساعة من سبتمبر 2017؟ ألم نكن وفرنا قسطاً من الآلام وعشرات السنوات المملة من الدمار الممنهج لبلادنا وتأخير التنمية وتعكير الاستقرار ووقف عجلة الاقتصاد بل وإطلاق وتيرة الإرهاب؟ ألم تكن الإصلاحات لو تمت فيما أطلق عليه الربيع العربي وأبرمتها الدولة كصفقةٍ ناجحة اليوم ومن دون خسائر حدثت، لحققت نتيجة أكثر بكثير مما حققته إصلاحات الأمس وشطبت سنوات جسيمة من الارتباك والانتكاس؟ لو افترضنا جدلاً استمرار أعمال العنف المحدودة والتي أمكن السيطرة عليها ومحاصرتها دوماً وبسهولة، ثم حل اليوم عهد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، كيف ستكون الصورة؟ لا أجزم بصحة افتراضاتي هذه ولا اشك بأن أكون مخطئاً في توقعاتي هذه ولكنها على الأقل تشكل مشروعاً لدراسة افتراضية مرت بخاطري وأنا أكتب بتقنية تأملية هذه السطور التفصيلية بعيداً عن أفق الشعارات وأمامي حشداً من سلبيات المشروع الإصلاحي، الذي أظنه جاء مبكراً عن توقيته المفترض وهذا ما سبب التشويش وقاد للتخبط بترك الجمعيات السياسية وتيارات المرجعيات الولائية تنهض وتنمو وتتفاقم وتخرج عن السيطرة من تحت معطف المشروع الإصلاحي الذي لو تأجل لكانت البحرين اليوم منافسة قوية لدبي في سباقها الحضاري وهي الإمارة التي لا تعتمد على النفط ولا السياسة الضيقة. إن حجم هذه الإصلاحات وحجم المشروع واحتوائه على كل ما اعتبر تجاوزاً مطالباً شعبية في الديمقراطية والانفتاح في العملية السياسية التي رفعت كشعارات خلال عقدين ماضيين عقيمين، بصرف النظر عن فئاتها وشرائحها وأوانها، هل كانت الاستجابة فورية ومباشرة وتلبي الحلم الديمقراطي؟ أم هي قراءة الدولة لمستقبل المطالب فجاء المشروع استباقياً محاولاً تجنب المفاجآت والصدمات اللاحقة من منظور تحليلي ورؤية عميقة؟
النتائج المادية عادة هي الحكم في النهايات، وما حصدنا من نتائج منذ 2002 وحتى الآن أظن أنها تشير لعكس المتوقع من هذا المشروع، ولو جاء متأخراً على الأقل حتى ما سمي بالربيع العربي وهنا لربما أيضاً طالتنا تداعيات مشروع أوباما التخريبي وحصدنا نتائج مختلفة لكنها على الأقل جاءت متأخرة واقل دماراً مما جنينا حتى الآن، كما أن هذا المشروع الإصلاحي المبكر كان هو الثمن الجسيم الذي سيرضي العالم من جهة ويوفر التداعيات حتى نبلغ النتائج الأخيرة التي جاءت بعهد دونالد ترامب ونكون ادخرنا طاقتنا التي أُهْدرت خلال السنوات الخمسة عشرة.
خلال هذه الفترة المذكورة اصطدمنا بالكثيرين ممن تسرعوا وركبوا موجة العمل السياسي العلني حتى أن بعض المصابين بلوثة التغيير ظنوا أن بإمكانهم تغيير النظام، كنت أتفرج عليهم مكتئباً على ما آل إليه وضعنا بسبب قيادة الغوغاء التي زعمت أنها الطليعة السياسية الذكية، لكنها أثبتت بأنها قيادة رومانسية حينما وزعت الغنائم قبل الأوان، فأعلنت الجمهورية الإسلامية في الدوار البيزنطي ورُشح رئيس وزراء علماني للجهورية الإسلامية هو الزعيم البعثي المحنط القديم على فخرو، خيال واسع وطبخة سريالية لا يمكن تذوقها إلا وتتخيل سلفادور دالي حياً. كنا نراقب حينها القادم ولا نستطيع مجرد الإشارة إليه لأن الذين شاركوا في الطبخة أكثر من الذين سيأكلون ومن هنا أضحى المشروع الإصلاحي مشروعاً انقلابياً فاشلاً بامتياز. هل كان بالإمكان تجاوز ذلك؟ نعم لو أُسست الجمعيات السياسية بوقتٍ متأخر وبنفسٍ غير طائفي، الاستعجال وحرق المراحل واستفادة إيران وقطر من هذا الحراك هو النتيجة المحتومة، وحسناً أثمرت النتائج عن فشل الانقلاب حتى ندرك حجم المؤامرة ونتعلم الدرس وننتهي من وعد والوفاق ونبدأ عنواناً جديداً هو التنمية والأستقرار؟
****
استهلت المرحلة السياسية الطارئة الجديدة غير المتوقعة التي أفقدت الكل عقله، وكأنها صدمة فاجأت الجميع بمن فيهم القوى المتناقضة والمتنافرة، السياسة والمليشيا الشيعية والمليشيات السرية المدعومة إيرانياً والجماعات الاخوانية والسلفية وذلك بإعلان ميثاق العمل الوطني الذي به تم الولوج السريع  واقتحام المعترك العلني عقب انكشاف الحياة السياسية السرية، بانطلاق المشروع الوطني في الحياة الديمقراطية من نقطة العام 2002 عندما شهدت البحرين تحولاً دراماتيكياً جذرياً في حراكها السياسي، التي سمحت وسهلت بفجاجة لبعض الجمعيات أن تُؤسس على قواعد طائفية للأسف المحزن وهو ما أعاد مرة أخرى إقحامنا في دوامة السياسة الرثة وعرقل حركة البناء والتنمية. هذه الطفرة السياسية من المؤلم رأيتها بحسرة وقد نسفتها القاعدة الخاطئة بكل تأكيد التي قامت على أساسها التنظيمات السياسية، فشهدنا نوعاً غريباً وغير مألوفاً من الاصطفاف الطائفي نمى وتضخم ككرة الثلج حتى بلغ مرحلة الانقلاب بعد عشر سنوات من نمو بذرته السامة التي كانت فطراً مسموماً ثم ذابت مثلما تضخمت، وهي تجربة ثانية بائسة بعد تجربة 1973 وكأن جنرالات الجمعيات المؤزمة وحكمائها لم يدخلوا حتى المدرسة الابتدائية في ألف باء السياسة.
في البدء كانت السياسة، هكذا ألَقْب الولادة القيصرية للمرحلة الانتقالية من السرية تحت الأرض إلى العلنية فوق صفيح ساخن، فمنذ البداية حتى قبل أن تنضج الطبخة القسرية التي أفرزها المشروع الإصلاحي الذي أكنّ له العديد من المآخذ والسلبيات من منطلق النتائج والتداعيات التي أنتجها وكانت سبباً في الفوضى العارمة اللاحقة وتُوجت بالمحاولة الانقلابية، لقد أسست الجمعيات السياسية أغلبها على مبادئ وقيم طائفية منها السنية والشيعية باستثناء جمعيتين أو ثلاث فرطت من هذا الكهف المعتم، منهم الميثاق والمنبر التقدمي ووعد والأخيرتين سرعان ما انزلقتا بحدة وبدون حنكة وقراءة التاريخ المحلي في فخ ما سمي بالربيع العربي الكئيب، مأخوذين كتنظيمين غبيين بخدعة وزنهما في الشارع وبوهم سقوط النظام الذي أوحت لهما به دون تأني يذكر، العقلية المتجمدة عند الستينات من القرن الماضي ذات الأفق الضيق والتي ما زالت انقلابية رغم الجو الانفتاحي والفسحة السياسية المعقولة التي حفزت مناخاً مختلفاً سمح بخلق تجربة ديمقراطية فريدة في المنطقة، لكن سرعان ما تزحلق هؤلاء القوميون واليساريون الانتهازيون في حضن الولي الفقيه.                         


Comments

Popular posts from this blog

رؤية معاكسة ضد تيار المقاطعة!