حرائر الزبير من رواية يسرا البريطانية
حرائر الزبير
من رواية يسرا البريطانية
كانت ترتدي قميصاً أزرقاً وفوقه سترة سوداء، مع تنوره في الأسفل على غير عادتها، لم تكن في بهرجتها المعتادة، لم تضع أي بودرة أساس واكتفت بحمرة خفيفة على شفتيها، وبدا كما لو كانت خارجة للتو من الحمام، قادتها من يدها بخفة وحنان متعمدة منحها شعور بالطمأنينة لثاني شقة في الممر الذي بدا واسعاً، كانت الأرضية مكسوة بالبورسلين الناعم بلون البيج الفاتح، أحست من خلاله بالحذر في الخطى وهي ترتدي حذاء الكعب، حين دلفت الصالة الواسعة، ظهر المشهد غريباً، لا علاقة له بشخصية المرأة الفاتنة المتحررة، كان لون الجدران زيتي مائل للرمادي والكنبات والمقاعد كلاسيك باللون البني، لفتت انتباهها لوحات بعضها لآيات قرآنية كتبت بخطوط مزخرفة، وهناك لوحتان للكعبة وأخرى لجمل في الصحراء، لم يكن هناك تلفاز ولا أي من الأجهزة المعتادة باستثناء جهاز كمبيوتر على مكتب بالقرب من نافذة أسدلت عليها ستارة رمادية قاتمة اللون، نُقش عليها طيور حمام سوداء، تأملت تلك الستارة لبرهة وسرحت وراء البحار وحطت عند الشفق المسائي بمحيط الزبير إثر الحرب الأمريكية على العراق، كانت طيور الحمام تندفع بسرعة قصوى لتصطدم بنوافذ المنازل والسيارات، لتسقط سكرة من شدة السموم والغازات التي خلفتها ليالي القصف العنيفة بالطائرات المحلقة طوال اليوم، محطمة كل ما تحلق فوقه، كانت تلك الغازات والأدخنة المنبعثة من حقول الغاز التي تغطي الأفق وتحجب الغيوم، خلفت وراءها آلاف الطيور نافقة، تذكرت تلك الحمامة كم كانت مرعوبة من دوي صدمتها بنافذة غرفتها، أفزعتها وهي تسقط خلف جدار المنزل، كانت بيضاء ولكنها تحولت لقطعة ملطخة بالزيت والدخان الأسود، وعندما نزلت تتفحصها وجدتها ترقص مختنقة لا تكاد تتنفس، ودت لو تجهز عليها لتنهي عذابها ولكنها تجمدت في مكانها مكتفية بتأملها حتى لفظت أنفاسها، أفاقت من تأملها للستارة على صوت من الغرفة الداخلية لعبد الباسط عبد الصمد يتلو سورة الحشر، مع خطوات البشرواي قادمة تحمل صينية عليها كأسي عصير “بلو بيري” مع صحن صغير يحتوي قطع بسكويت مستطيلة، جاءها صوتها قبل أن تجلس تبادر مبتسمة.
” حيا الله يسرا البريطانية”
فاجأتها بلفظ يسرا البريطانية الذي كان محصوراً في دائرة ضيقة بفندق الهوليدي إن بلندن، أثار فيها ذلك الفضول من جديد حول المرأة التي جاءت بها إلى هذه البناية، التي لا تبدو على هيئة سكن ولا مكاتب أو مقر لمؤسسة، تجاوزت تلك الأسئلة الداخلية واكتفت بالقول من خلال نبرة مقتضبة.
” لماذا التكليف؟”
جلست قبالتها على كنبة مفردة وقد أخرجت علبة سجائرها وسحبت واحدة ومدت العلبة ليسرا التي استلت هي الأخرى واحدة وهي تقول.
“كنت ترصديني، هل أنا محقة؟”
لفت انتباهها المكان برمته، لا علاقة لها بشخصية المرأة القابعة أمامها، فالصورة ما زالت مبهمة بل وازدادت غموضاً ببروز مسحة دينية على المكان، قارنت بين آثار الغرف التي كانت تسكنها بالفندقين سواء بفندق لندن داون تاون أو بكينغستون، الدلائل كانت كلها تشير إلى تحررها، بل وكانت آثار قد تركتها وراءها تشير لتناولها الكحول فيما هنا صوت تسجيل لقرآن يتلوه جهاز التسجيل بالإضافة لطابع المكان الذي لا يدل على طبيعتها المتحررة، تقبلت الغموض بشكوك في محاولة لسبر غورها ولكن الأخرى قطعت عليها أفكارها وهي تبادرها بنبرة لا تخلو من الذكاء الممزوج بالمكر.
“أنت من الزبير وأنا من الزبير، أنت عراقية وأنا سعودية، أنت فقيرة معدمة وأنا كذلك حتى التقيت بالأخوة الزبيريين، أنت عانيت من التهميش وأنا كذلك وكان مقدر لنا أن نلتقي بهذه الصورة”.
“ما دخل الزبير في هذا كله؟” أول ما خطر على بالها وهي تنظر نحوها وتبحث عن جواب في ملامحها وعن سمات تدل على خيط يربط بين المرأة أمامها وبين الزبير وحلب ودبي والبحرين وكل المسافات والأمكنة التي قطعتها لتستقر في بريطانيا وتلتقي هذه المرأة التي أدركت للتو بأنها كانت تطاردها ” ولكن منذ متى بدأت الملاحقة؟” هذا ما جال في بالها وهي تحدق فيها إلى أن أيقظتها مرة أخرى عبارتها الباردة.
“أعرف أنك متشككة، وهذه طبيعتك ولكن لنبقى على الأقل صديقتين وأساعدك على الوصول لجذورك التي انقطعت عن الزبير، أنا زبيرية وهذه هي البداية”.
عند نهاية عبارتها نهضت واستأذنتها بنظرة مع ابتسامة وهزت رأسها وهي تغادر الغرفة تاركةً يسرا وحدها وسط كومة من الأفكار المتشعبة والشكوك التي تضاعفت من حولها “ماذا تريد مني ولا تبوح به؟” عادت تتأمل المكان وتحدق في الأشياء من حولها لعلها تستكشف مزيداً من الدلائل حول ما يجري، رأت سجادة للصلاة على المنضدة بقرب الباب، وقعت عيناها على بشت أبيض معلق في زاوية وتمثال لنخلة مع سبحة بنية اللون على طرف طاولة وعصا يد مسندة على الجدار وظهرت سدرة رأس رجالية على طاولة صغيرة بزاوية أخرى من الغرفة، ولاحظت مبخر قديم يقبع فوق دولاب ملابس مغلق، بدا لها المكان يعج بالتناقضات، حاولت استشفاف ولو خيط دقيق يوحي بين المكان هنا وبين الزبير كما تدعي المرأة ” لا توجد نكهة الزبير ولكن هناك بعض السمات الدالة على القبلية والعشائرية التي ورثتها من بيئتها السعودية ” أين أنا؟”
فاجأتها البشرواي قادمة وهي ترتدي ملابس عباءة سوداء كشفت من أمامها عن فستان أزرق فاتح مطرزة أطرفه عند الأسفل وسرحت شعرها وبدت كامرأة من الزبير وبيدها حملت ألبوماً كبيراً اقتربت من يسرا ودعتها للجلوس بجانبها على الكنبة الطويلة، فتحت ألبوم الصور وراحت تستعرض الصورة الأولى القديمة لرجل يرتدي الثوب الزبيري مع الغترة والعقال وعليه بشت رمادي وبيده مسبحة وقف بالقرب من سوق شعبي قديم ومن خلفه ظهر متجر للملابس الرجالية.
” يدعى سوق العقيل”
شعرت يسرا بارتعاش في أطراف جسدها ولاحظت شعيرات يدها الصغيرة ذات اللون الذهبي تقف مشدودة مع ضربات سريعة تصدر من قلبها تلاه خفقان سريع لمعدتها، كانت واجمة وهي تشم عطر قديم يأتي من المرأة بجانبها التي استرسلت في الحديث قائلة بصوت خفيف امتزج بنبرة حزن عميقة.
” أنت من أهل الزبير، وأنا من نجد، أهلي وأهلك، بلادنا الزبير العريقة التي استباحها الغرباء، جئنا من أرضنا الأصيلة وتشردنا في الكرة الأرضية، هناك الفروع التي انحدرت من نجد والكويت والبصرة، قد لا تعرفين اليوم شيئاً عن والدتك ووالدك وأخوتك ولكن تذكري أن كل الشجرة الموجودة اليوم هم أهلك وأنت تعيشين هنا وحيدة”
التقطت أنفاسها وتطلعت في عينيها وبدتا كما لو تدمعان ثم استأنفت وقد شابت صوتها حشرجة وهي تضيف.
“البسام وآل عبدالرزاق وآل الحسن والسميط والمرزوق، هل تعرفين عن أهل نجد من سدير وحَرمَه؟ لقد نزحوا من هنا إلى هناك ومن أرض لأخرى ولكنهم لم يتوقعوا أن تضيع أرضهم ويتيه أحفادهم في بلاد الله الواسعة، لقد كنا جميعاً في الصحراء العربية ونتيجة الخلافات مع بعضنا التحق من التحق، بالكويت والبعض بالبصرة ومنها الزبير ومن بقى في الصحراء جئت أنا منهم”
أمسكت البشراوي بيد يسرا وراحت تضغط عليها واسترسلت الكلام وقد بدا من صوتها وكأنها تلملم جراح عميقة محفورة في أعماقها.
” انظري أين وصلنا، نحن الذين كنا الحرائر في محيطنا وكنا نملك مفتاح الجنة، بلغنا الحضيض، هل تظنين أنني كما هو مظهري الخارجي؟ وأنتِ أين كنت؟ تزيلين قذارة حثالة البشر، تنظفين برازهم مقابل جنيهات حقيرة، هل أنت راضية عن هذا القاع السحيق الذي انزلقت فيه لأن هناك من سرق بيتك وأقام فيه وشرد أسرتك، من بقى الآن من أهلك؟”
تركت يدها واستلت سيجارة من علبتها الحمراء وسط ذهول يسرا التي ما انفكت الدموع محبوسة بداخل عينيها فيما الأخرى تمسح حبيبات العرق من جبينها رغم برودة الطقس.
“كنا شيوخ وعائلات وقبائل وعشائر، كنا نملك البساتين والمياه والفضاء وأصبحنا اليوم مشردين في شوارع لندن، بذمتك ألا تودين العودة لمنزلك بالزبير وتحتضنين النوافذ والأبواب والسماء وتتنسمين هواء الفضاء حتى لو كان ملوثاً برائحة الغاز والبترول؟”
“ماذا أفعل؟”
قالتها أخيراً بعد أن انزلقت الدموع من عينيها وانخرطت في البكاء وقد انفجر مخزن الماضي بداخلها وانتثرت قصاصات الصور لسيقان القصب غارقة في المستنقعات والبردى، والعقيد جبار الشريف الذي رحل للجبهة ولم يعد، لنجوى القطان وصوتها الهادر باستمرار وأحاديثها عن عائلتها الكويتية، الشقيقين فراس الأكبر الذي انتزع من طفولته والتحق بالجبهة، وسام التائه وسط الأزقة والأحياء والمزارع مطارداً الكلاب، عن وجوه الطالبات وصديقاتها ومدرساتها وأقلامها وأحلامها وشهاداتها المكدسة في أدرج صناديقها الصغيرة المخبئة بغرفتها العلوية، عن الأوراق الصفراء المتساقطة من شجرة اللوز خلف جدار المنزل، وعن عصافير الصباح على نافذتها.
غابت سعاد البشرراوي لثوانٍ عدة وعادت وبيدها ورقة قدمتها ليسرا التي طالعتها والذهول يحيط بها بعد أن جففت دموعها، أخذت الورقة من يد يسرا وقالت بنبرة حادة على عكس النبرة الهادئة قبل قليل.
” قد لا تفهمين معنى اللغز الذي يحيط بنا أنا وأنت ومئات نساء العرب المشتتين في أرجاء الكون ولكن سأقرأ لك المعنى المراد من هذه الورقة..
الحمد لله رب العالمين القائل في كتابه العزيز ( وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) والصلاة والسلام على أشرف المرسلين القائل إنما النساء شقائق الرجال “
نهضت يسرا وألقت بنفسها على سعاد البشرواي واحتضنتها الأخيرة بحرارة.
” سعاد”
ردت الأخرى بنبرة خاطفة.
” ليس هذا اسمي الحقيقي!!”
from WordPress دار لوتس للنشر
via IFTTT
Comments
Post a Comment