من رواية (رقصة أخيرة على قمر أزرق)

من رواية (رقصة أخيرة على قمر أزرق) صثقص

الجزء الثالث والأخير ثلاثية القمر

الشوارع المزدحمة عند المساء بمنطقة الجفير تبدو غارقة في مستنقع من السيارات  المجنونة، يقودها شباب أغلبهم متهورين تضج بهم شوارع المنطقة لدى نهاية كل أسبوع، وأغلبهم من دول مجلس التعاون، قطريون  وكويتيون وسعوديون وقلة من العمانيين، تكتظ بهم الشوارع الضيقة التي مازالت تحت التصليح أو الإنشاء، إذ لا توجد مواقف للسيارات ولا مخارج لها فتتحول المنطقة الصغيرة المحشورة بين سياج القاعدة الأمريكية من جهة و سلسلة مطاعم الوجبات السريعة من جهة ثانية إلى علبة سردين، وعندما تضيق مواقف السيارات الجانبية يضطر البعض من رواد الضاحية تلك إلى ركن سياراتهم فوق الأرصفة وتتوقف حركة السيارات ويتوزع الصخب والضجيج بالمكان حتى يضيق بالمشاة الذين يختنقون بدخان عوادم السيارات، فيما تتصاعد حرارة شمس يونيو الممهدة لدخول الصيف وهو الفصل الذي هجرت فيه نعوم شقتها لأكثر من شهر واستقرت في شقة مفروشة أخرى لحين ما يتم إعادة تأهيل شقتها التي تمكن خليفة من شرائها بعد أن ترسخت رغبتها في الاستقرار بهذه المنطقة المطلة على البحر، فمنظرها المسائي يذكرها بالدار.

 انحدر المساء على أفق المنطقة التي تتوسط قلب الضاحية التجارية وهي تكتظ بالمطاعم والسوبرماركات الجديدة، لاذت السيارات بالأرصفة بعد أن ضاقت بها الشوارع، وهذا دفع نعوم الهاربة من الضاحية البحرية من المحرق هرباً من رائحة البحر ونكهته الوحشية قبل أن تبتلعها اليابسة وتُزرع بالجزر الاصطناعية التي قضت على اليابسة بالمحرق، لتلوذ بشقتها منعزلة، والغالبية من سكان السواحل لاذوا بعيداً عن شمس وملح البحر ورائحته إلى منازل وشقق الإسكان، ولكن الشتاء كثيراً ما ذَكّر خليفة بطراوة الطقس ونكهة الهواء البارد المنعش، عندما تنبعث من المنازل روائح الطبخ الطيبة المصحوبة بعبق القرفة والزنجبيل ومزيج البيض المقلي بالبصل والثوم، كانت أشعة الشمس الباهتة في الشتاء تمنع عنه حالة الحك والحساسية التي كانت تصيبه في يونيو ويوليو وأغسطس وتدفعه للحك والهرش بأظفاره ليسيل دمه في النهاية، فقد فضل الشتاء لأسباب عديدة منذ طفولته ومراهقته وتهربه من الحر والرطوبة، كان سقوط المطر يتزامن مع تصاعد شهوته الجسدية ومعاناته مع الوحدة والأفكار الاشتراكية التي ما انبثق وانقلب عليها محتفظاً بروح المبادئ ومتخذا من الليبرالية جوهر روحه الداخلية التي تغذي ذاته بالحب للحياة والجسد، وتغذي عقله بالتحول المستمر في الأفكار والسياسة والتي فرضت عليه التظاهر بالتدين ومنافقة الملتحين إلى أن بدأت السنوات تشق له طريقاً منذ رحيله إلى الجفير متخذاً من شقته المطلة على البحر والمجمعات والشوارع مرفأ مؤقتاً لحين تنساب معه بقية امتيازات الحياة الجديدة التي يتطلع إليها بذاته الظاهرية، ويمقتها بذاته المحفزة بكراهية الغنى منذ تعلم أن ذل الفقر، والوحدة و المرارة، والمرأة التي يحبها من روحه وهي تواقة للعذاب الداخلي من خلال صمتها وكآبتها المزمنة، ومع ذلك لا يفكر بمجرد الابتعاد عنها، كانت نعوم مينائه الأخير في الحياة رغم ثغرة السن الشاسعة بينه وبينها، وترهل الجلد عند أسفل الفك ووضوح الفارق كبيراً بينهما، فقد توسلها أن تعلن له عن حبها ولو لمرة تكون فيها نبرتها صادقة وصادرة من القلب، وحصل له ما أراده ولم تقنعه العبارة ولا المشاعر التي وجدها جافة لا تعبر عن شغف به كما هو يفعل، فتكيف عبر السنوات اللاحقة مع هذا الطقس الحسي وتجرع الصمت حيناً والكلام عندما تكون هناك حكمة منه.                                                                              

ظل طريقه خلال كل المرافئ التي ألقى بمراسيه فيها وفقد الدلالة على فهم ما يجري من حوله، فراح يتنقل من ميناء إلى آخر، ومن درب إلى منحدر، ومرّ بجميع الطرق الوعرة معتقداً أنها الطريق الأقصر إلى إثبات الذات، ولكنه كان انتقال بمجرد أن يصيبه الضجر أو تضيق به السبل وكان الدين غطاءً لعبور المسافات القصيرة نحو النجاح، ولم تشفع له الوسائل التي اقتبسها من الجماعات الإسلامية في نزع نسيج التوتر والقلق الذيّن رافقاه منذ الطفولة حين عاش منعزلاً مع والدته، إلا من رفقة الشيخ فضل الذي سرّب إليه كل الأسرار والخفايا المتعلقة بالشيخ خلف، فكان في البداية يميل إلى الصوفية وما لبث أن انقلب تدريجيا وبصورة ضبابية ما بين الأخوان والسلف، إلى أن انخرط مع الأخوان حينما احتاجوا إلى مرشح لإحدى الدوائر الانتخابية وبدأ يصعد السلم رغم عقده الثلاثيني معتمداً على نسيج العلاقات الإخوانية  التي تعتبر جواز المرور للبرلمان وغيره من المناصب، وذلك من خلال الشبكة العنكبوتية المتسللة إلى كافة المؤسسات، وهذا النفق المؤدي للدهاليز الضبابية هو ما يدفع الكثير من الطامحين والمتطلعين للمناصب إلى الانخراط في الشبكة الدينية الواسعة الأطراف التي تستوعب الشباب والأطفال والمراهقين، وقد أدرك خليفة ومن قبله مبارك قدرة النسيج الديني على فتح آفاق النجاح، فولجا إليها متخلين عن وازعهما الديني الصوفي الذي ورثاه مما وصل إليهما من بقايا وأسرار الشيخين خلف وفضل اللذيّن نفثا فيه نفسهُما الديني، ذي الصبغة الصوفية، المبني على ذوبان الذات الآدمية في الذات الإلهية، حتى لتبدو كأنها تشبه طيفاً من الذاتية الملحدة التي تتوحد مع المحيط الاجتماعي عبر التساهل بين الجسد والرغبة والتوغل في غابة استوائية من الرغبة التي تبدد أي تحفظ للجسد وتحرض على إباحة الشهوة من خلال تحرير الرغبة من الحصار الديني التقليدي، لم يعي خليفة فلسفة الجسد هذه ولم يفلح في سنواته المبكرة في معرفة أسرار الغابة المليئة بالمنحدرات والدهاليز الموغلة في عمق الروح، لكنه وبقليل من أسرار الشيخين اللذين فتحا له بوابة الرغبة الاستوائية، تمكّن رغم عزلة المكان والزمان من الولوج إلى عمق اللذة الروحية والجسدية وهي تنبعث من تأمله في جسد النساء كما لو كان نسخة طبق الأصل للشيخ سيار الجد الأول للشهوة الاستوائية(1) حتى وهو يتذوق الطعام المغموس في الثوم والملون بنكهة الزعفران التي توقظ الشهوة، كان يستمد هذا الذوق من نبع الأيام الخوالي التي كان فيها الشيخ سيار يقتبس اللذة من نكهة الفلفل والخلطات السرية حين اعتاد أن يسقي نفسه ويسقي النساء من حوله بتلك المشروبات السرية، كان خليفة هو نفسه الشيخ سيار رغم أن مبارك هو الذي ينتمي بالجسد والروح إلى الشيخ الراحل وليس خليفة، لقد تزامن ولادة الطفرة الدينية بداخله مع موجة التدين التي اجتاحت الأمكنة كلها وتسربت إلى الجميع من شباب وأطفال ونساء ورجال، وبدت الملابس  والمظاهر والألوان تذكر بأن الدنيا على وشك أن تغادر من هذه الأمكنة التي عرفت فيما سبق الهوى وكيف كان يدار في الأحياء والمدن وحتى الأجواء التي يتزامن فيها التديّن بالطقس المثقل بالأمطار والبرد والبخار وزغب الغيوم وهي تتناوب السماء بهدير من البرق والرعد، وتذكر بالحب والوله، كل هذه الفصول المفعمة بمشاعر العفوية التي كانت تقرب الناس من بعضهم البعض، صارت وسط المد الديني حلبة سباق نحو المناصب والمقاعد البرلمانية والبلدية، من هذا النفق ولج خليفة عالم السياسة الممزوجة بالدين. هناك ملامح كبيرة تكتنف العلاقة الدينية بين خليفة والشيخ خلف من خلال ما كان يرويه الشيخ فضل عن الآخر، ولعل تلك السيرة التي انطبعت بصماتها في وجدان خليفة حينها قد تنفست اليوم في شكل انتماء لجمعية الأخوان حين تقاطر بعض أعضاءها عليه،  وهموا بالتوغل إليه والتسلل من باب الدين لكنهم دهشوا لدى اكتشافهم حجم الطاقة الغريزية من المعرفة الحسية التي لا يحتاج من يملكها إلى الكثير من الجهد ليصبح قيادياً في التنظيم رغم صمته الدائم وعدم مجادلته، وقد أشاع ذلك حوله إعجاب الكثيرين  وقد كان لنعوم دورها في صقله، عبر مرافقتها له منذ الوهلة التي تحررت فيها من البحر والساحل والمحرق وهربت إلى الجفير مع ذكريات دار الشيخ سيار، وكأنها بدفعها له لواجهة التنظيم تريد الخلاص من وجدانها المؤلم المثقل بسنين المرارة والمجون الجميل كما كانت تسميه كلما طفت بسطح ذاكرتها الواهنة أطياف تلك السنين وأوراقها الصفراء المتساقطة.       

هامش

1- الشيخ سيار هو بطل أحداث  رواية (بيضة القمر) وهي الجزء الأول من هذه الثلاثية ولمزيد من التفاصيل يمكن العودة إلى تلك الرواية للمؤلف.                     

تقاطع عالم خليفة الراهن مع نعوم بعوالم الأمس الثرية بالأسرار، وتحولت أحاسيس حبه الجارف لها إلى خزانة مشاعر لا تنضب، وفي أوقات الحاجة تهدر بالثقة، وكلما شعر برغبة في جسد ما ترك لخياله الواسع الوحشي يمتزج بين جسد نعوم في ذروة استوائية وجسد المرأة التي تقتحم عليه رغبته، ولهذا لم تغوهِ امرأة إلا عبر ولعه الدائم بنعوم التي كانت تترجم حبها له بموسيقى الجسد، فتتحول المضاجعة إلى عزف منفرد على جزيرة جسدها الذي ظل كما كان عليه دائماً من الجمال والرشاقة رغم تقدمه في العمر، كانت تثيره في شكل جسد آخر من امرأة أخرى لم يضاجعها، كان يقتبس من الشيخ خلف غريزة النفاذ وراء ملابس النساء وتجريدهن من كل القطع والسفر للشهوة، وإذا فاضت شهوته  عن قدرته على الاحتمال، لاذ بالاستمناء، ينحرف حيناً عنها بمشاعره فقط، ولكن سرعان ما يعود إليها مستوحياً ذكرياته معها في دار الشيخ بالحالة التي تحتضن سيرة الهوى في زمن المحرق القديم.

 




from WordPress دار لوتس للنشر
via IFTTT

Comments

Popular posts from this blog

رؤية معاكسة ضد تيار المقاطعة!