مقطع رواية الخراف الضالة المرشحة لجائزة الشيخ زايد

 

الخراف الضالة - رواية

زهرة

خلعت زهرة حجابها الخفيف الذي بالكاد يخفي تخوم شعرها الأسود من الأمام وأسدلت ستارة نافذة غرفتها المطلة على الطريق الضيق الفاصل بين ممرين ينعطفان على سلسلة من المنازل المرصوصة بداخل الحي القديم بسترة لتتجنب سماع الأصوات المفزوعة والمضطربة التي تتداخل مع أصوات الطلقات النارية وفرقعات مسيلات الدموع التي ظلت تتوالى طوال اليومين والليلتين الماضيتين، تسمرت أمام المرآة جاحظة العينين ساهمت النظرات يطبق عليها الوجوم وهي تتأمل شعرها المسدول ينتابها حدس مخيف يوغل فيها رغبة جامحة بصبغ شعرها إلى اللون البرونزي كالذي تأملته قبل قليل في إحدى المجلات الأجنبية لتغطي بذلك على حالتها النفسية المضطربة يخامرها شعور مبطن بأن اللون الجديد سينزع عنها حالة الكآبة الشديدة التي سببتها الأصوات المتداخلة للعربات والطلقات والصرخات المنبعثة مع ولوج القوة الأمنية القرية فيما تتلألأ السماء من فوق سطح الدار بأضواء حادة كالشهب تتشابك مع الظلمة المنحدرة إثر انقطاع الكهرباء بعد اقتحام قوات الأمن الخاصة الشوارع والطرق بالقرية، كان الليل يبدأ مبكراً والضجيج ينزلق مع كل دقيقة تمر فيما تطل فوهات لبنادق يحملها رجال يجوبون الطرقات مع هدير أصوات العربات الأمنية، فتختفي على أثرها كل حركة في الطرق فيبدو المكان أشبه بغابة إسمنتية تتخللها روائح الغازات مختلطة بروائح الطبخ المنبعثة من نوافذ المنازل التي بدت بعضها شبه مهجورة من الحياة حيث غادرها البعض إلى مناطق أخرى وقيام البعض من الأهالي بإغلاق الأبواب والنوافذ عليهم مفعمين بالصمت المطبق بين بعضهم البعض، يجتاحهم ذهول لما يجري حولهم.

عالم زهرة ضاق إلى حجرة صغيرة مع تلفاز وجهاز لبتوب  وهاتف من نوع بلاكبيري وحمم من مشاعر محتدمة تجرفها مع سيول من الحزن والذعر الداخلي المصحوب بكآبة فقدان الحب الذي ولد ومات بسرعة الريح التي بذرته في فضاء الدم والتيه، كانت مضطربة وهي تواجه ذاتها في غرفة منعزلة فوق السطح سكناها بعد أن ضاق بها الطابق الأرضي هي وأخوتها وشقيقاتها المكدسين في فناء منزل صغير على أطراف القرية مقابل سلسلة المنازل المترامية الأطراف بالحي القديم، كانت صدمة نهاية الحلم بالثورة قد سفكت روحها مع تزامن ذلك بانفصالها عن حمد في ذروة نشيج العاصفة التي اجتاحت البلد، من يومها دخلت في بيات ليلي مع أدوات الاتصال في نحيب داخلي مروع يقطعها إلى شظايا من ألم موجع بلا دموع، فقد ظلت محبوسة في مقلة عينيها، فكانت تندس في الفراش وتغط في غيبوبة مستخدمة كل وسائل التنويم من أقراص وسوائل السعال المخدرة مستنجدة بالنوم للتغلب على أفكاره السلبية الموغلة في السوداوية تأخذها في خيالات جامحة بين فترسم سيناريوهات قاتمة في عقلها الواعي ليتسلل إلى عقلها الباطن فتنبثق عن ذلك مشاعر موحشة أكثر سوداوية من الأفكار ذاتها التي أنتجت تلك الأحاسيس التي أشبه بفيضان عارم من الألم الناتج عن خيبة الأمل التي مرت بها مع المئات من جيلها ممن راودتهم الأفكار الثورية التي نسجتها وسائل الاتصال الاجتماعي مثل الفيسبوك والتويتر وقد جنحت في بداية الأحداث بانفعال في الانخراط بالنشاطات الاجتماعية التي رافقت الحركة معتقدة أنها الثورة فارتمت في قلب الطوفان فشاركت في الهتافات وبعثت الرسائل وقامت بتوزيع النشرات ورددت الشعارات ولم تكن تدرك مسار الأحداث، كانت روحها تتوهج ببهاء المشهد مقترنة بالعاطفة التي تكنها لحمد منذ ما قبل الأحداث، ثم صحت على الانفجار العاطفي بين الناس فأيقظ ذلك شعور الفئات المختلفة من السكان بغضب والتوتر وساد القلق فبدأ حسها ينعطف نحو الخوف والترقب مما تحمله الأحداث ولكنها ظلت منسجمة مع التيار وما حمله لها من تحرر من قيود المنزل وأسئلة الأهل فظلت تغيب عن الدار بالساعات ثم بالأيام وتبيت خارج المنزل حتى تمكنت لأول مرة في حياتها من الشعور بالحرية في الخروج والسهر والغياب فانعطفت لديها المشاعر نحو فك القيود الاجتماعية، كانت تنظر للأمر من زاوية الإفلات من أسر القيم التي عاشتها طوال سنين عمرها العشرين وأوشكت على ولوج الحرية المطلقة مع انفلات الوضع الأمني الكامل الذي تمثل في نحول الدوار إلى مأوى للنفوس التائهة والهائمة فاستباحت لنفسها فتح الأشرعة على مصارعيها وأرخت مشاعرها لتنطلق بضراوة فشطت مشاعرها إلى أن اصطدمت في الأيام الأخيرة مع اتساع رقعة الاحتجاجات وأعمال العنف واحتلال الشوارع والمرفأ المالي فبدأ يتسلل إليها الشك ولكنها ظلت تساوم الظنون التي أخذت تتسلل إلى ذهنها المشوش وزاد من ذلك تقاطع هذه الأفكار مع عاطفتها تجاه حمد الذي كان بداية نقش عاطفي جارف رأت فيه مرفأ لحياتها التي كان منذ البداية مشوشة وبلا هدف إلا من حدس ينبئ عن سير العلاقة معه باتجاه النضوج مدفوعة بشرارة العاطفة إلى أن بدأت تدرك حينما تضع رأسها على الوسادة بالأيام الأخيرة للأحداث انحسار الشعور بالأمان مع ظهور الدبابات وللعربات المسلحة وحشود القوات المدججة بالأسلحة تملأ الشوارع والطرقات التي كانت قبل فترة شبه خالية من هذه المظاهر.

رأت في زهو الليل واجتراح العتمة على تخوم الحزن الدفين حين ينقطع سبيل النوم وتشبع روحها من لظى الوحدة وانحسار الأصوات والضجيج والحشود التي كانت تحيط بها وسط كثافة الأناشيد والنقاشات والجدل بين النفوس المنفلتة بلا حدود، فباتت الآن وحيدة يراوغها ليل ضاعت من حواشيه الغيوم الممطرة التي كانت تبلل ظفائرها عند تخوم الدوار فأيقنت من ضياع الحلم ومذاق نبيذ الحب الذي ابتلعه الطفح الطائفي فسدت الدروب في عقلها الصغير الذي استيقظ على مجدٍ فقد أيقونته المكسوة بالعاطفة الملتهبة، فبدأ لها الأمر وهي ترقد قاطنة اليأس المتسرب لها من كل الجهات كأنها اهتدت لسرب نجوم السماء التي لم تلاحظ خلال تواجدها بالدوار مسار هذه النجوم فاجتحتها ذكرى مجد الحب الذي كانت خلاله تخوض وحل الطين عند سفوح المرفأ القديم المحاذي للبحر وهي ممسكة بيد حمد وسط عتمة التخفي الليلي وعينها على كل ضوء متسلل من بعيد خشية انكشاف أمرها، فأيقنت أن لذة الخوف الذي كان ينتابها حينذاك كان أروع ما مر بها في حياتها.

أصبح الليل والغرفة العلوية المعزولة عن بقية المنزل وسط سطوع أضواء الطائرات العمودية التي تحوم من فوق وأصوات العربات والغبار الخانق المنبعث من الشارع ملاذ تقاطع مع مرارة فقدان الحب فأوغلت في الخيال المصطنع الذي نسجه عقلها الباطن وهو  يلح عليها للغياب في خدر دائم يشكل لها ملاذاً من الألم، فتماهت مع الأفكار التي تولد مشاعر خفية تساعدها على الهروب من الواقع فراحت تتسلل إلى بداية العلاقة مع حمد واستعادت ضراوة النشوة وبدأ عقلها يشتغل على الهروب..

 

****

 

 




from WordPress دار لوتس للنشر
via IFTTT

Comments

Popular posts from this blog

رؤية معاكسة ضد تيار المقاطعة!