مقطع تمهيدي من رواية (بسرا البريطانية)
مقطع تمهيدي من رواية (يسرا البريطانية)
( 2 )
خرجت يسرا القرمزي من رحم امرأة كويتية، بشرتها بلون بصراوي في الثالث عشر من ديسمبر من عام 1985 شهدت النور في منطقة من الزبير بالبصرة بأرض مغمورة بالمياه، تنمو فيها سيقان القصب والبردي طبيعياً ويكون بارتفاع الإنسان المتوسط الطول، كانت البلاد تغرق في حرب ضروس مع الفرس ولم تترك خياراً في العيش الهادئ الذي اعتادت الأسرة المكونة من والدها العقيد جبار الشريف الذي رحل للجبهة مع إيران، والدتها نجوى القطان من عائلة كويتية تعرف عليها خلال التحاقه للعمل بالسفارة العراقية في الكويت عند تخرجه بعد انتهاء خدمته في الجيش ملحق لم تحدد هويته، وقد استدعي بعدها للجبهة إثر اشتداد المعارك وفقدان الآلاف من الضباط والجنود على الجبهة، كانت والدتها نجوى المرأة الحنطة كما كان يناديها زوجها، تعمل مدرسة بمدرسة ابتدائية بالزبير وقد أجبرت على التقاعد بسبب عاهة أصابتها نتيجة لحادث مروري، واشتملت دائرة الأسرة على شقيقين، فراس الأكبر وقد انتزع من طفولته والتحق بالجبهة، وسام الأصغر الذي ترك المدرسة وغاب في دهاليز الأحياء والأزقة وجاب غابات النخيل والمزارع يعمل بشتى المهن الصغيرة التي لم تناسب طفولته بعد أن خرج عن السيطرة بسبب غياب الأب وضياع الأم في شئون الحياة الصعبة وهي تتدبر حياتهم بقدر المستطاع، أما يسرا فقد كانت الفتاة الوحيدة في الأسرة التي ضاعت بين شقيقين غابا في حقول البردي وأم ذاقت مرارة الوحدة والبحث عن الرزق، ووالد التهمته المعارك الشرسة ولا يعلم عنه شيئاً بالشهور سوى بضع مرات يصلهم فيها لأيام، ثم يختفي، ظل راتبه الصغير يربط بينه وبينهم كأسرة وهذا ما أوجد حالة العزلة والتوحد مع ذاتها باعتبارها الفتاة الوحيدة في المحيط،، ولكنها من جهة أخرى ساعدت هذه الوحدة على خلق حيز شاسع من الوقت في التركيز على التحصيل الدراسي فيما بعد.
كان هناك شقيق ثري لوالدها جبار الشريف حسب ما تناهى لسمعها مرات يعيش بمدينة حلب بسوريا، لديه أملاك ومصالح ولكنها لم تعلم أكثر عنه سوى أن اسمه هيثم الشريف، زرع ذلك برأسها أفكاراً سرعان ما نمت ونسجت من حولها عالماً خيالياً من الثراء، لم تصدق أن لها عماً في هذا العالم يمكنه أن يحقق لها الأحلام التي نبتت في عقلها منذ الطفولة، حيث تنتقل من مدرسة لعالمة آثار لطبيبة إلى عازفة بيانو ثم تستقر على سيدة أعمال، كانت تحلم بهذه العوالم وهي تتحدث مع والدتها، ولكنها لم تبح بكيفية الوصول إلى هذه المكانة، لكنها احتفظت في خزانة أفكارها السرية بالمغامرة التي توشك أن تقدم عليها، جعلت من اسم هيثم القرمزي عنواناً جديداً لمغامرة الحقبة المجهولة التالية لو سدت الأبواب في وجهها واسودت الدنيا، قفلت على الاسم في ذاكرتها واحتفظت بمفتاح لقادم الزمان لو كتب لها أن تفلت آثار الحرب القائمة.
عندما بدأت تقرأ الأبراج، أيقنت أن هناك عالماً آخر يتشكل منه عالمنا الداخلي ويرتبط بالأفلاك، دأبت على ملاحقة ما تنشره المجلات والجرائد من عروض الأبراج، فتشكل عالماً سرياً اسمه برج القوس، كان عبارة عن مفتاح الولوج لسر الأسرار، فقد حصرت كل ما له علاقة بالأبراج وراحت تقصه من الجرائد والمجلات وتحتفظ به في درج خصصته لأسرارها الصغيرة التي كانت بمثابة خزنة العمر، رأت ذاتها متوقدة، متحررة امرأة من برج القوس، منفعلة باستمرار، عصبية مع صبغة من عزلة وفقدان للثقة في الآخرين، تجرح غيرها ولا تُجرح، كانت تعشق السهر وتتوق للتحدي ولا تستسلم للفشل، وتتميز بالصرامة حتى مع ذاتها، تغضب ونادراً ما تسامح مما جعلها تتساءل في وقت ما “هل أنا كذلك؟” فتبحث في أفكارها وتبدأ تقارن بين ما تقرأه وبين برجها، وتطابقه بواقعها وتكرر السؤال” هل أنا كتلك المرأة”؟ كثيراً ما كانت تغضب وتحنق ولكن لا تفصح عن غضبها وتكتفي بإغلاق باب الغرفة وتبكي، قرأت ذات مرة في مكان ما لا تذكره اليوم أن “المرأة القوس تنضج مبكرة هكذا انتصرت لنفسها وهي تحرق سنوات الطفولة للوصول إلى النضوج الإجباري، تقحمها الظروف على تحمل مسؤوليات جسام، لا تضعف إمام التحديات ولا تهرب من مواجهة مصيرها، لا يمكن أن تخضع المرأة القوس لأي أمر خارج إرادتها، وتعشق أن تكون محط لأنظار الآخرين”
كانت ترى في الأبراج سحر رباني يتكون من حلقات الماء والأرض والنار والهواء، وسمح لها خيالها وهي تتدثر بشتاء ديسمبر أن تخترع لها حلقة وهي حلقة الثلج بحكم كونها من مواليد ديسمبر وجعلت من برج القوس وهو البرج التاسع في دائرة الأبراج الذي ينتهي به فصل الخريف برجها العاجي! الذي لا يصله أحداً ممن يحيطون بها بما فيهم والدتها التي بالرغم من كل محاولات التوغل لخزانة أسرارها لم توفق إلا في الأمور الصغيرة، لم يتسلل إليه فضولي ولم يقتحمه متطفل.
كان قضاء الزبير بمحافظة البصرة المكسو بالنخيل والزراعة والمياه والحشرات والذباب في بعض الفصول، يشكل لها عائقاً لتمد خيالها فيه وتتجاوز حدود البيوت والمساجد والطرقات المغبرة ولكنها تجتاز تلك العقبة بتأمل النخيل والبساتين والمياه المتدفقة من خور الزبير حينما كانت ترافق والدها قبل أن تشتد المعارك، كانت رائحة النفط هو ما تعبق به السماء ويفوح شفق المساء في الزبير بالغبار النفطي، لتتخيل فيما بعد وهي تعبر التاريخ عبق الزمن السحيق القادم من قبور الزبير بن العوام المدفون بسوق القضاء الكبير، والشاعر الحسن البصري وطلحة بن الزبير وبقايا منارة كأنها الأطلال يخيم عليها ظل رمادي أشبه بيوم غائم، كان قد صلى فيها الإمام علي بن أبي طالب، وظلت تشهد على تاريخ الزبير التي علقت بذاكرتها وهي تنمو ذهنياً وجسدياً ويتقبل عقلها التطور البيولوجي بسرعة أشبه بنمو سيقان القصب في المستنقعات المحيطة بالمكان، كانت الأولى على الطالبات منذ المراحل الأولى وكانت الأولى في سباقات الجري، عينيها دائماً وهي تبدأ الجري على خط النهاية وكأنها ترسم نتيجتها منذ الخطوة الأولى وهي تقفز في الهواء كأنها فراشة تكسر الفضاء من دون حدود تطرق لها، عبرت المسافات جميعها وخطت نحو التميز في كل المراحل التي تبلغها ورغم ذلك لم تفك عنها العزلة.
كان عالمها منذ ولدت في الثالث عشر من ديسمبر هي مدينة الزبير الجديدة، التي جاءت على أنقاض الزبير التاريخية ببقايا القصور القديمة العائدة لقصور البصرة وتقع إلى الشمال من مدينة الزبير. يمتد النهر منها حتى شط العرب، كما حفر الأهالي سلسلة أنهر صغيرة لتروي المدينة وبساتينها وقد بدت تلك الأنهار بوجود القصور حولها جنة الله على حد تعبير العوام، ولشدة حبها وتعلقها بتلك البيئة انغمست يسرا منذ بلغت العاشرة في البحث والتنقيب عن كل ما له علاقة بتاريخ الزبير، إذ راحت تقرأ كل ما تقع عيناها عليه من قصاصات تاريخية وتربطه بما تشاهده حولها من بقايا شواهد للمدينة القديمة التي بنيت من القصب والبردي وجذوع النخيل قبل آلاف السنين وقبل أن تختفي كل تلك الشواهد إثر حريق البصرة الرهيب والذي على أثره قام الخليفة عمر بن الخطاب ببنائها مرة أخرى
****
from WordPress دار لوتس للنشر
via IFTTT
Comments
Post a Comment