مقطع من رواية( رقصة أخيرة على قمر أزرق) التي ستصدر قريباً 

الرغبة الاستوائية 
  
خلود

بدا وجه الشيخة خلود كريشة حمام برونزية، تتراقص برشاقة على ضوء الزجاج الأصفر المتساقط من أعلى السقف، وتتفتت بلون البنفسج منعكسة على المرآة، ممتزجة مع لون الشفاه، ومخلفة آثارً لونية رقيقة كحد السيف، ما كادت تنتهي من زينتها حتى انحدرت أسفل السرير المقابل للمرآة، سحبت ميزان قياس الوزن وصعدت عليه ونظرت بامتعاض إلى ما يشير إليه الرقم وهو الثمانية والستون، هبطت إلى الأرض باقتضاب وتناولت حقيبة يدها وهي ترتدي الكعب العالي وتقفز بسرعة الضوء إلى سيارتها البنتلي السوداء وقبل أن تلمس مؤشر إدارة المحرك أطل عبر النافذة المغلقة وجه رجل صلب البشرة، خمري اللون، تبرز منه عينان متقدتان بالاستياء وقسمات بحرية الملامح ليسألها بنبرة يكتنفها التوتر.                                            
- هل أنتظركِ يا صاحبة السمو؟                                                
- نسيت حتى أن تلقي عليّ تحية الصباح.                                        
- صباح الورد سموك.                                                           
نظرة زائغة ألقتها عليه واتجهت برأسها للأمام، ومن دون جواب إلا حركة من أهداب عينيها الطويلتين بلون بؤبؤها الأحمر الداكن، وعبرت ممر البناية تاركةً الرجل يسرح برأسه للسماء وعيناه للأفق البعيد الممتزج  بلون غبار الخريف، لتتغير ملامحه الداكنة نحو الأفول كما لو أغلق ستار السماء وقت الصباح حين ينسل الهواء الساخن قبل أن تزحف حرارة شمس نسيان نحو الأرض موقظة رائحة الأعشاب، وباعثة على النعاس مع أوراق الأشجار الصفراء المنكبة على التراب مخلفةً انعكاس ضوء شاحب يكتنف الوجوه ويثير الوجوم في أرجاء المكان، ظل الرجل مسمّراً على وجه البناية لوزية اللون، فيما تطاير الغبار في وجهه وشعر بنكهته مع رائحة حرارة هواء السيارة الذي خلفته وهي منطلقة منذ وهلة.                                                               
- أين تذهب هذا المساء؟                                                          
فرطت منه ابتسامة صغيرة تقاوم الإقتضاب وهو يتذكر أن سؤاله هذا ليس عنواناً لصفحة البرامج في الجرائد، ولا هو سؤال عن براءة فلتت من عقله الباطن الذي يختزن آلاف العناوين والأرقام والأسماء الجاهزة للانتشار وراءها، لكأنه خريطة للأمكنة والأزمنة المتلاحقة التي يتوجب عليه حفظها جميعاً حتى يبقى قريباً من المرأة التي كتب عليه أن يحيا بهدف واحد في الحياة القائمة على الأزل، ليكون ملماً وعلى استعداد تام لمعرفة أين تكون؟ وعليه أن يتعرف بمسارها عبر عطرها ورائحة سجائرها، كما عليه أن يتكهن من نظراتها وغضبها وبهجتها عن مكانها، وهي التي تحلق كالريشة في زوبعة بقعر تيارات الهواء.
 كان الخريف، وكان الموج وكانت الرياح الشمالية الساخنة التي تلت فصل الشتاء والربيع، وقد اعتاد أن يتلقى اتصالاتها في أوقات الذروة لأبسط وأسخف المتطلبات، مثل تعرقها وحاجتها الطارئة إلى ملطف الجسد، حين تتصل به من آخر الدنيا ليأتي بها من أقرب سوبر ماركت في الطريق، كانت تتصل وتزف إليه رغبتها في زجاجة نبيذ ماركة تحددها علماً بأنها تملك كميات من الأنواع الأخرى، تمرّن خلال الوقت الذي ظل يحرسها فيه ويراقبها على ألا يتأفف أو يماطل أو يتهرب، لقد تعلم كيف يمتص ثورتها وجنونها وانفجارها، حين لا تجد حولها ما تبحث عنه، كانت تتدبر الهروب والتسكع والبحث في أكثر من سيارة، وتختفي فجأة كما الإبرة وسط الزوبعة حين تحط في أي مطار مساءً وتصحو في مطار آخر صباحاً، ثم تكون في نهاية المطاف بدبي مقر إقامتها الدائم، وعندما تغلق هواتفها السرية والعلنية عليه أن يواجه الرجل الكبير بأسئلته القاتلة.                  
عندما تنتقل إلى فراشها مساءً بعد كل هذا السباق المشحون بالتوتر لا تجد سوى أنواع المرطبات الكيميائية تدهن بها بشرتها الناعسة بفعل الكميات الهائلة من مواد التجميل، والتي حسّنت البشرة من ناحية وأصابتها بالخمول من ناحية أخرى، وما زلت مشكلتها مع التعرق ليلاً في الفراش قائمة حتى بوجود مكيفات هواء تعمل، ورغم الطقس الذي لم يكن بعد بتلك الدرجة من الحرارة حين تهبط الرطوبة طبقات مشبعة بالندى، كانت مشكلتها تتصاعد مع كل مساء تنتهي به في الفراش، وحتى هذه الأثناء لم تتوقف عن الاتصال به وطلب المزيد من الخدمات، أصبح الأمر معه أشبه بالروتين اليومي، لا تتوقف الاتصالات إلا عندما تكون مع طويل العمر والذي كانت تنعته بالحب، ولم يكن ذلك تعبيراً عن الحب ولا الوله وإنما كناية عن العادة التي درجت عليها منذ بداية ارتباطها به قبل الزواج، حين كانت تدرب ذاتها ونفسيتها ومشاعرها على كيفية تقبله كزوج دائم، إلى أن توصلت معه إلى اتفاق حددت بموجبه زواجها منه بالزواج الجزئي، بدوام جزئي يحررها من الالتزام به ويحرره من مصيدة أسرته الحاكمة، ومن زواجه العائلي، ورغم سرية الأمر الذي على أساسه ارتبطت به قررت من يومها أن تكون شفرة متنقلة بين عواصم  دول العالم، إلا أنها ظلت تحت درجة الصفر الرقابية التي تولت تلبية طلباتها لحظة بلحظة، مع ما يرافق ذلك من مجهر مسلط على مدى الأربع والعشرين ساعة من اليوم، كان الرجل المكلّف بالخدمة تحت ضغط الحفظ والتسجيل والمتابعة للعناوين والأرقام من دولة لأخرى، ولم يمنعها كل ذلك من العيش باسترخاء بعض الساعات حينما تفلت هنا وهناك.
الأيام سريعة تمر بين المطارات والحجوزات وهو يختزل لها الوقت وإجراءات السفر من خلال جوازها الخاص، وبين المجمعات التجارية وفنادق الخمس والسبع نجوم ولقاءت تتكرر مع الحب الذي سريعاً ما يأتي وأسرع ما يغادر، على ضفاف البحر أو في قلب المطاعم الفاخرة كانت المشاعر تفيض بالسعادة وتغمرها الأحاسيس بعالم سري ممتلئ بغرائب الناس والطباع والمعارف الجدد الذين يأتون ويغادرون بسرعة الضوء وكأن الكرة الأرضية اختزلت في رأسها بهذه الدائرة الممتدة بين جواز السفر الدبلوماسي وبين الأصدقاء والأسرار وأضواء المطاعم  الفخمة التي أصبحت بروائحها الزكية وأضواء شموعها ونكهات أجبانها وأشكال زجاجات الشمبانيا التي حلت  بديلاً عن الأهل والأسرة، عوضاً عن دفء جدران المنزل وصلة القرابة وحنين الأهل، وحتى التاريخ والجذور والأمكنة وذكريات الحي وعبق الأيام الخوالي ورونق صفصاف ورق البحر، وأوقات السنة وزهر الربيع وورق الخريف وبرد الشتاء الذي لم يكن ببرودة السنوات الماضية، كل هذه الفسيفساء صنعت لها صحراء مشعة بكل ألوان العصر كأنها مدينةً الكترونية تعيش العصر وسط فضاءٍ عشوائي من الناس والزجاج والحجر والألماس والأوراق المالية المختلفة، بين الدولارات والدراهم والريالات والدنانير وهي تختلط في حقيبتها مع عشرات بطاقات الائتمان متنوعة الإصدارات، كانت الرحلة تبدأ بدون مواعيد ولا تخطيط وإنما باتصال يأتي في وقت غير متوقع، فتهرع إلى المطار بعد أن تستلم تذكرة السفر من جهاز الكمبيوتر وتستقر بقية اليوم أو الليلة في فندق بدبي، أو بفيلا في القاهرة، وتختلف الرحلة اليومية عن الرحلة الأسبوعية حين تتوزع بين مطارات لندن وباريس ومدريد أو غيرها، بحسب الرحلة والرغبة في الاستقرار لفترة تسمح لها بأن تعوّض التوتر والأرق حينما تمتد لياليها طويلة في عزلة مع مواد التجميل وحقائب السفر، تفرزها بعد كل رحلة، تتجاذبها الأسواق الحرة، فتغرف من مختلف ماركات العطور والساعات والإكسسوارات، وتمني النفس بهدايا للأصدقاء والأهل والأطفال وتحلم بتغليف تلك الأشياء التي لا تتوانى عن شرائها لتكتشف بعد الخدر وبعد أن تفيق من ثمالة الساعات المشحونة بغياب العقل الواعي، حين يطفق عقلها الآخر المدفون في اللاوعي بالتسبب في العديد من التصرفات الغريبة والخارجة عن نطاق وعيها المتجسد في كثرة حالات النسيان، خاصة بعد الليالي التي تسرف فيها بالشراب وتناول الأقراص المنومة، كانت تهرب من كل الضجيج والفزع الذي تتركه أصوات الطائرات وعربات الشحن وسكون القلب الذي كلما تسللت الطائرات وراء الغيوم الكثيفة والسوداء وتدفقت الدورة الدموية حادة وساخنة مع كل موجة من المطبات الهوائية، كلما تدفقت شرايينها معلنة عن ذبذبات من التوتر يختلف عن الذي قبله، فتحزم قرارها بالاستقرار في مكان تسكن إلى الراحة وتبدأ بمزاولة تمارين الاسترخاء والتنفس، حتى الرجل المكلف بحراستها، يسكن وتهدأ أعصابه ويبدأ هو الآخر في الاسترخاء، وما يكاد يمر شهر حتى تقفز من سريرها أو حمامها أينما كانت وتهرع لجهاز اللوبتوب لتدخل على  مواقع الحجوزات وتبدأ على الفور بالبحث عن ملاذ آمن تزيح به عن كاهلها مشاعر الاستياء، ترسل رسالة الكترونية تنبئ فيها الحب بقرارها المغادرة، كان فندق أتلنتس بدبي مكانها المفضل حين تستقر بسويت مطل على حوض السباحة وسلسلة النخيل، وجسر عبور المترو، فتبدأ أول خطوة بإزاحة الستارة عن الغرفة وتحضير زجاجة النبيذ الأحمر الذي تجلبه معها في الحقيبة، فهي لا تثق بمستوى ما يقدم لها من خلال خدمات الغرف، في أي مكان من العالم تحل فيه، كانت مشاهدة المنظر المطل على الخارج متعة الدقائق الأولى لوصولها الغرفة، أما المساء الذي تصل فيه إلى هناك فهو الاستراحة التي تهيئ بها نفسها ومشاعرها وجسدها لحين وصول الحب.
                                                            
****

" في مكان ما وعند حافة بحر عميق، أمنح وجهي لشفق مشع بالغموض، وأخيرا وجدت الحب! أَقترب من ناس وأبتعد عن ناس، أغضب ولكن ليس من نفسي، وأحتج ولكن على الدنيا، فأنا مسترخية ومرتاحة ولا توجد بي أمراض ولا أعاني من استياء ولكن الوحدة والعزلة زميلاي الدائمين، كل ما أمر به غير عادي. ألوان من البشر وكم هائل من الخدمات يتبرع بها الآخرون لي، لا أُعاني من خوف حتى أني لم أعد اطوي الأيام ولم أعد أعبر الشوارع المزدحمة، كل ما حولي ساكن وصاخب، انتهيت من كل شيء سيئ، وحده الحب أُكرس وقتي له، الحوار بالليل مع الحب يأخذني إلى عوالم بنفسجية الأطراف، فلا يبقى في الدنيا سوى الحب الذي لم يُقصر في يوم معي بشيء إلى حد أنني أغرق في البذخ وأنعم بالحرية وأجول العالم ولا يهمني من الدنيا إلا صحتي وسعادتي، فلم أعد أخاف العالم ولم أعد اشغل فكري بمجريات التفاصيل اليومية، هربت ذات مرة من الشارع المغبر، أخذت أجري بالسيارة كما لو كنت أجري بقدمي، ألهث كنت وسط نظرات الطائشين من الشباب، كان الشارع ضيقاً وكنت أهم بالهرب من تلك الشوارع وكل همي أن أصل، إلى أين؟ لا أعرف كانت ثمة سيارة تتبعني، اقتربت مني حتى كادت تصدمني وتزيحني من الشارع حتى كدت أصطدم بالرصيف، حدث ذلك مرة ولم يتكرر لأني من يومها هجرت الشوارع الضيقة، ما عاد شيء يبهرني اليوم سوى الفنادق على غرار برج العرب وأتلنتس وجميرا، دبي.. وحده المكان المحبب للعيش فيه، أشعر بحريتي الكاملة وبصلتي بالدنيا، لا من يراقب ولا من يتجسس إلا عندما يتعلق الأمر بالسياسة وهذه من آخر همومي.                                                
عندما أغير المكان كان الخوف في الماضي يتملكني، عيوني تحترق وجسمي يبلله العرق حتى في الشتاء.. أتساءل .. ماذا أفعل في هذا الوقت وهذا المكان؟ أكون مذعورة ومشوشة، ومنذ أن عرفت الحب حررني ذلك من الخوف فأنا الآن أسحق بقبضتي ألف رجل، وأمسح عن وجه الأرض كل من يحدّق بي، أنا الآن قوية ومسترخية وواثقة من نفسي ولا أملك إلا فندقاً وتذكرة وحقيبة لا أحملها بنفسي فهي تصل قبلي إلى أي مكان أقصده. هذه أنا، خلود، أتلذذ بلقب صاحبة السمو برغم كوني زوجة سرية لطويل العمر.. الحب.                                                                           
منذ أيام حلمت بمرايا مهشمة تعبر الشارع معي ثم تتجمع وتبدأ في احتضاني لأصبح قطعة مرآة كبيرة، أعبر الشارع، وجوه وسيارات وعمارات وأضواء صاخبة كلها تتجمع دفعة واحدة ثم تختفي، كانت المرآة على هيئة امرأة بهيئة البحر وكان ثمة سمكة أشبه بقرش أسود بزعانف قريبة الشبه بعمامة رجل دين.. ما هي الحكمة من هذا الحلم سألت نفسي وأنا ما زلت أحلم؟"                                                             

****
                                   
في الصباح استيقظت على صوت تنفسها، بشق النفس إثر تناولها بالليلة الماضية قرص الفاليوم مع كأس واحدة من شراب الشيفاز الذي تفضله على بقية الأنواع، كانت متكلفة وهي تتحرك بقميص شيفون أبيض تكاد قدماها لا تسعفها على الحركة في المكان، اضطرت لان تسحب جسدها المثقل إلى شرفة الغرفة وتزيح الستارة لتطل على حوض السباحة الذي تحيط به أشجار النخيل بفندق أتلنتس بدبي، كان المترو لحظتها يعبر الطريق من فوق جسر مرتكز على أعمدة إسمنتية مطلية مغروسة في المياه التي بدت لها ضحلة، التفتت إلى سماعة الهاتف بقربها وطلبت فطورها المكون من بيضة مسلوقة مع قطعتي توست  بني وسلطة الفواكه مع علبة شوفان صغيرة وإبريق صغير من حليب قليل الدسم، كان ذلك فطورها في أغلب الصباحات التي تفزع فيها بعد ليلة مثقلة بالنوم.                                                                           

****

كان شهر حزيران قد أطل بعد فترة لم تشهد فيها المنطقة لا شتاءً ولا ربيعاً، وقد تضاءلت آمالها بفترة باردة تتخلص فيها من عذاب العرق وضيق النفس كلما غزت الأجواء موجة رملية مصحوبة بالغبار الذي عادة ما تأتي به المنخفضات الجوية من العراق مروراً بالسعودية وبقية المنطقة، كانت تشعر بلسعة برد نتيجة التكييف الشديد. انسلت إلى المكتب الصغير بالغرفة فتحت البلاك بيري لتبدأ جولة كتابية لم تسعفها كثيرا حالة الطرف الآخر، فقد بدا ذلك من تقاسيم ملامحها التي دلت على خيبة الأمل، استلقت وراحت في نوبة تأمل تلتها لحظات من الاسترخاء مهدت لها وضع أغنية فيروز (كيفك انت). بدا هذا الصباح كعشرات الصباحات الروتينية التي تقضيها بفندق أو فيلا أو قصر أو مطار، تكون فيه عابرة بحقيبة الترانزيت وكأنها لاجئة أبدية، غير أن متعة الحرية ومشاعر البهجة التي لا تتوقف عند حد وهي تتسوق عبر الأسواق الحرة والمجمعات التجارية بمفردها، لا يضاهيها إلا ساعات الوحدة وسأم الأمكنة حينما تلبث فيها لمدد طويلة، ثم سرعان ما تصبح بين جدران الغرف وستائر النوافذ التي تظل تفتحها فينة وتغلقها فينة أخرى ولا تفلت من هذا المناخ المنعزل إلا بعد أن يبدأ الليل في التسلل بطيئاً آخذاً في الانتشار من حولها كما لو كان دخاناً مُنبعث، ثم ما يلبث أن يتوسع بدائرته حتى يغطيها بوجوم وذاكرة منسية حتى الصباح التالي.                                      
- هلا حبي.. وينك أنت؟وحشتني، مدة طويلة وأنا انتظر صوتك، مسجك، إيميلك.. آه طفشت من الوحدة والسأم. هل تدرك كم كنت مشتاقة إليك منذ لقاءنا الأسبوع الماضي في روما؟ لا تنسى أني زوجتك مهما كان رأي العائلة بي فأنا في النهاية واحدة من العائلة ؟                                           
- كنت في أكثر من مؤتمر، محلياً ثم سافرت لمسقط يومين، خططت أن أعرج عليك لولا اتصال من الدوحة بشأن عائلي ما اضطرني للتأخر عليك، لكن سوف أعوضك بأسبوع كامل في أي مكان تريدين، بداية من يوم الجمعة.
- نحن اليوم الأحد هل انتظر كل هذا الوقت؟ عيسى.. لا أستطيع أن أصف لكَ السأم والضجر الذي أعانيه، أرجوك تفهم وضعي، لو كنت قادرة على البقاء وحدي أكثر، لما ضغطت عليك.               
سرت بأوصالها رعشة للحظة وجيزة وهي تقيس مشاعرها المختلطة بين السعادة بما تملك والعزلة المفرطة التي تحاصرها، رغم إحساسها بالانتعاش وهي تتلقى صوته الناعس على الهاتف، فيما كانت تعبث بطرف السيجارة بيدها الأخرى، كان الشعور رغم معاناة العزلة مبهجاً وهي تتلقى كلماته التي كانت دائماً تأتي لها بالسكينة وتحفزها على الاسترخاء ويمتد هذا الشعور بضع ساعات وأحياناً بضع أيام من المكالمة، ولكنه سرعان ما يصبح عادياً حين تمتد الساعات والأيام إلى أسابيع مجدبة.                                  
- سأخرج الليلة إذا لم تمانع، لابد من تغيير الجو من حولي.
- متعي نفسك حياتي واحرصي على التنكر جيداً.                                             
كان يقهقه وهو يبعث لها بنصيحته المغلّفة بالحرص، وهي رسالة يجترها دائماً وتدرك مضمونها الذي ينسحب على المكان والزمان اللذين ستكون خلالهما فيه، كانت تخشى الطلب منه الخروج مع صديقات من لبنان تعرفت عليهن في إحدى جولاتها القديمة من قبل الاقتران به، وهي تعلم تحفّظه عليهن وما ساعد على تجاهل هذه الرغبة مبادرته لها بتحويل مبلغ كبير مؤخراً إلى حسابها مع عبارة " لا تحرمي نفسك من شيء"                                
يدل هذا الحر الذي يتسلل وهجه من أسفل الشرفة ويلامس أصابع قدميها وهي تدخن سيجارتها العشرين بمواجهة حوض السباحة الممتد على مدى البصر، الحرارة تنبعث من الأسفل وتشعر بها،  والظلام يغطي بعض جوانب الساحل البحري من الفندق فيما ضوء المصابيح الصفراء يشع على الحوض وأطرافه وحول سياج النخيل المحيط ببركة السباحة الصغيرة الملحقة بالحوض الرئيسي، بدا مناخ حزيران هذا المساء مختلفاً بلهبه بفعل بعض النسمات الباردة وهي تهب قادمة من جهة البحر وانحسرت الرطوبة رغم أن الريح كانت جنوبية مشبّعة بحشرات متناهية الصغر، تحلق حول الأشجار وتصعد حتى الطبقات العليا من المباني ولم تمنع الستائر والزجاج المحكم الإغلاق من تسلل هذه الكائنات عبر الشرفات المفتوحة في هذه المباني الفخمة، خرجت من الحمام من دون أن تجفف جسمها كاملاً وسارت نحو السرير مواجهة لشاشة التلفاز الذي كان موجهاً على برنامج حول الرقص حدقت فيه لثوانٍ، تناولت قميصاً أحمر بياقة مطرزة بلون أسود ثم تركت الفوطة البيضاء تسقط لتكشف عن جسد برونزي بدا في غاية النحافة عند الخصر، والإكتناز عند الأرداف، وساقين ممتلئين، فيما بدا أبطها أبيض كالحليب بعكس لونها المائل للبرونز، سارعت بارتداء سروال رقيق بلون البنفسج الفاتح تنتهي أطرافه بشريط مخلخل شفاف ضاق على تضاريس خصرها وفخذيها اللذين بدا هما الآخرين مكتنزين وصافيين من أي خدش، باستثناء أثر صغير على هيئة مستقيم بلون بني فاتح عند الردف، استكملت ارتداء البنطلون الجينز الأسود الضيق وتوجهت نحو مرآة خارجية بقرب السرير وبدأت بوضع لبنات صورتها التنكرية المعتادة لتتخفي في هيئة امرأة ليل، تغرق في بحر من الأصباغ، طلت شفتيها وخديها وتركت خطاً مستقيماً من الكحل يصعد إلى وجنتيها، اجتاحت جفونها حيوية مفاجئة، شعرت للحظة برعشة مفرطة وهي تكمل، كان المكان في أقصى درجة من البرودة وسادت رائحة العطر من ماركة "فلاور بامب" التي رشتها على نفسها في أرجاء المكان، تلفتت حولها، تناولت حقيبتها اليدوية السوداء وراحت  تتفحص محتوياتها لتتأكد من أنها لم تنس شيئاً، عادت إلى طاولة المكتب الصغيرة  بالزاوية وأخذت جهاز مشغل السيارة وبعد مسح ميداني سريع لأرجاء الغرفة تنبهت إلى أنها تركت بطاقة الغرفة الالكترونية على السرير، تناولتها ودستها في الحقيبة وألقت نظرة خاطفة على المكان ثم غادرت.       

****

وفيما هي تنتظر بواجهة الاستقبال عند مدخل الفندق المطل على موقف السيارات رن هاتفها النقال من داخل الحقيبة ليأتيها صوت الحارس، كابوس الليالي السعيدة كما كانت تسميه في  سريرتها ليثير ابتسامة مسترخية تنم عن هدوء أعصابها.                                                                  
- هل تريدين مساعدة في شيء؟                                                
ضحكت وردت ببديهية مفرطة.                                               
- ابتعد عني فقط.                                                               
- أنا هنا من أجلك دائماً يا صاحبة السمو.                                     
- اسمع، لقد أخبرت طويل العمر لذا اتركني وشأني الليلة، إلا إذا أردت غضبه.                                                                           
 لم تبتعد كثيراً عن المكان فقد قضت الليلة بطولها داخل أروقة وممرات ومطاعم وبارات الفندق تتجول بوجه يكسوه سحر بلوري ينبض بحيوية فائقة حين تركت شعرها الأسود المقصف الأطراف يخفي جانباً من وجهها المشع باللون الوردي مع كريم الأساس الذي اعتادت أن تتخفى به في جولاتها الليلية، كانت تبحث عن مغامرة صغيرة لا تنجرف معها بعيداً لكسر رتابة الوحدة والصمت، راحت تتجول في أرجاء الفندق الذي أكتظ بالحركة والصخب، خاصة مع وجود العديد من الأجانب الذين يشكلون شرائح لوفود أجنبية بالإضافة إلى زرافات بشرية تنتشر عبر المطاعم والبارات غالبيتهم نساء وأطفال جزء منهن بائعات هوى، حدث مرتين وأكثر أن قامت بالتقرب منهن وفتحت معهن أحاديث حول جنسياتهن وظروفهن وما يتعرضن له من مضايقات ومعاناة، وفي ذات الوقت ظلًت على حذر من الانزلاق معهن في أكثر من ذلك، وتحذر من الاختلاط بهن خارج زوايا ودهاليز البارات وبحضور أفراد من العرب، تقترب وتبتعد بحسب ظروف وبيئة المكان وكثافة النزلاء وبائعات الهوى والزبائن والوفود المشاركة عادة في مؤتمرات، وحين الانتهاء من تلك الجلسات المملة والضجرة تنتهي بهم الأقدام إلى تلك الزوايا المعتمة بالليل. اعتادت على حفظ الوجوه، كان يستفزها مظهر الحسناوات الأجنبيات وطريقة استخدمهن لوسائل التجميل البسيطة والمعتدلة وعدم المبالغة في وضع الماكياج، تجذبها طريقتهن في التبرج، فكانت تتلهى بالحديث معهن وتحاورهن في تفاصيل الجمال والشكل وكثيراً ما كانت تنتزع منهن الأفكار الجديدة في أسلوب التجميل وحدث مرات أن توسلت من بعضهن الطريقة في استخدام بعض الوسائل.                                                         
في ركن من بار واسع تتخلله منطقة معتمة وأخرى عبارة عن مدخل لصالة رقص تديره فنانة لبنانية، وتصدح فيه أغنيات لفيروز قبل بدء الرقص الشرقي،  عثرت على طريقها إليه من خلال زيارات سابقة إليه، وهناك تعرفت على كثير من  رواده وهم خليط من عرب أغلبهم من الجالية اللبنانية مع نسبة قليلة من أجانب عادة ما يكونون من وفود أجنبية جاءت للمشاركة في مؤتمرات عالمية تنظم بالفندق، إضافة إلى عائلات جاءت من خلال شبكات التورز السياحية، في ذلك الركن الذي كانت أضواؤه خفيفة وهادئة تبعث على الاسترخاء، أخذت أول كأس لها، بعدها راحت تنظر في العيون وتتبادل بعض الإشارات مع اثنين ممن يعملان في المكان وقد تعرفا عليها بصعوبة نتيجة طبقة التجميل التي حَرّفت بها شكلها وغيرت من ملامح وسمات وجهها المعتادة،مع مرور الدقائق وتوالي الأغنيات دفعها شعور بشغف لصوت الحب عيسى القابع الآن في حضن العائلة إلى الإسراع في تجرع الكؤوس، دارت الأفكار في رأسها وانتعشت روحها بهواجس تهاجمها كلما سرح بها الفكر بعيداً، وتلاشى شعور الوحدة الذي تخلفّه جدران الغرفة لساعات طويلة، بدأت تتجلى من الداخل ولامس أحاسيسها طيف رجل غائب وحب مشتعل ورغبة يحد منها طول المسافة التي تفصلها عنه، عن ملاسة حلم بالسقوط في حضن الرجل هذه الساعة التي تنتعش فيها شجونها بوله وحشي للتعري، تخنقها عبّرة تود لو تسيل دموعها على صدر أو في كف رجل ينتزع كل هذا الشبق فلا تجد سوى كأس آخر تطفئ به الشوق لما وراء البحار.                            
خيّم صمت مطبق على روحها من الداخل وانسحقت مشاعرها لمرآى النساء والفتيات يتدفقن على المكان بصحبة الرجال، فغاصت مرات أخرى في الشراب.                                                                        
في غضون الدقائق التالية وعند بلوغ الساعة الثانية وخمس وأربعون دقيقة لحظة تطلّعها إلى ساعتها، تركت المكان بغتة لتجد نفسها في الممر ببهو الفندق متجهة نحو السلم المؤدي لجهة يطل منها حوض كبير يمتد من الأعلى لأسفل القاعة، يمتلأ بكل أنواع أسماك بحر الخليج، تعرفت على بعضٍ منها حسبما تتذكر مما علق في  ذاكرتها من المرات السابقة التي وقفت فيها عند هذا الحوض نفسه وسألت عن كثير من الأسماك، ولم تحتفظ الذاكرة إلا ببعض الأسماء، منها سمك القرش والشعري والهامور وأسماك أخرى صغيرة وكبيرة لا تعرف أسماءها، تمهلت في سيرها ثم واصلت عبور ممر طويل في الأسفل تضيئه مصابيح بأضواء صفراء على هيئة مشاعل كتلك التي توضع بقلاع حقبة القرون الوسطى، لتصل لمنحنى ظهرت خلاله بوابة صغيرة يقف عندها رجلان بهيئة جبلين، تكسو ملامحهما قسوة الحرس الليلي ومعهما امرأة سوداء تقف بجانبهما، فيما ثلاثة رجال أجانب وفتاة يواجهون مشكلة في الولوج إلى المكان، وحين اقترابها من البوابة أخرجت من حقيبتها بطاقة الغرفة.                                     
قضت ليلة متخمة بالصخب والعشوائية من موسيقى هائلة تبثها سماعات ضخمة موزعة في الأرجاء وصراخ وسط كومة من الأجساد والأنفس المتلاحقة وهي تلتهب بحرائق الأجسام المتصلبة، ترقص بجنون ترافقها الأضواء الحادة والمعتمة، توقفت للحظة تلتقط أنفاسها أقترب أثناءها أحد الرجال بدا عليه انتظاره فرصة توقفها ليبادرها بحديث يتقاطع مع فوضى الأصوات والموسيقى.                                                            
- من أي بلد أنتِ؟                                                                
- خَمن؟                                                                           
- السعودية.                                                                      
- أحسنت                                                                        
تركته بضحكة ساخرة وانسابت وسط حشد الأجسام وقد بدا عليها الإرهاق والثمالة، ورغم ذلك راحت تتمادى في الانسجام مع مناخ الصخب لينسيها خوفها وقلقلها الدائمين من الوحدة ومن حديث الذات المستمر وإخفاقها في إطفاء ظمأ الجسد الذي مر عليه زمن لم تختبر فيه حدس الرغبة وحضور الاشتعال، ومحاولاتها إرغامه على الضمور حتى لا يتقد الفكر بحب غير متواجد وشوق مقيد بالسرية، وهاجس العزلة يمنعها من ولوج تحقيق الرغبة مع أي عابر ليس بحكم الزواج، ولكنه الحب المغروس بداخلها والذي انغمست فيه بالتدريج إلى أن انتهى بها المطاف في هذا النادي الليلي بعيداً عن أسلاك الأهل والأسرة والأصدقاء، مع غرباء وتائهين وباحثين عن اللذة بسعر السوق وبكل العملات المتوفرة في مثل هذا الليل الذي لا حدود فيه للشهوة.                                                               
- متأكدة أنت من السعودية؟                                                    
تسلل مرة أخرى يسألها فدفعته بيدها وسط دائرة الأجساد، تعلوها ضحكة صاخبة لينزلق على جسدين مترنحين، اتجهت نحو واجهة البار وركنت في زواية بعد شعورها برغبة في كأس جديدة، فيما حدس مخيف بالتقيؤ ينتابها تغلبت عليه بالبحث عن مكان حقيبتها التي وجدتها على سطح حافة البار من دون أن تعبأ بالعيون والنظرات المتسائلة من حولها، لرجال من أطياف مختلفة، كانوا يتأملونها منذ البداية من غير أن يجرؤ أحدهم على الاقتراب منها أو مفاتحتها رغم تواجدها في نادٍ ليلي.                                    
الصباح بالنسبة لها هو بعد الثانية عشرة ظهراً.. وصلتها تذكرة سفر درجة أولى عبر الكمبيوتر من الحب تطلبها لملاقاته في باريس، كانت جائزتها بعد سهرة الليلة الماضية التي صحت بعدها ودقات قلبها سريعة مصحوبة بخفقان داخلي أشبه بهبوط تدريجي لميزان جسدها المنهك إثر الشراب والتدخين المفرط مع قلة النوم الذي كان على هيئة إغفاءات متقطعة، تسرع على إثرها للحمام وتعود لتظل دقائق طويلة تتقلب محاولة النوم رغم كم الإنهاك الذي تشعر به ودرجة الانحدار في التوازن النفسي والعصبي نتيجة صوت قرع الموسيقى الصاخبة، إضافة إلى دخان السجائر وفقدان الجسم للسوائل، كانت تدرك في كل مرة تصاب بهذه الحالة أنها لا توحي بأي اضطراب في القلب بقدر ما هو جفاف في الجسم لقلة المياه، وقد تعلمت ذلك من المرات العدة التي كانت فيها تسرع إلى العيادات الخارجية لفحص حالتها حينما تصاب بمثل هذا الاضطراب في الجسم، أدركت في كل مرة تفرط فيها في الشراب والتدخين بأن مثل هذه الحالة ستزورها بالرغم من أخذها  لدروس حول أسرار البحث في الذات وحالة العقل الباطن، حين فهمت أن عليها ترتيب أفكارها الإيجابية وطرد الأفكار السلبية الغازية لأعماقها والتي تسمم مشاعرها، كانت قارئة نهمة لكتب الذات والعقل الباطن منذ سنوات الوظيفة وقبل اقتحام عالم صاحبات السمو، ولشدة تعلقها بأفكار تلك الكتب لم تعر حالات التوتر والاضطراب النفسي والعصبي أهمية تذكر متجاوزة مخاوفها القديمة وقلقها من المستقبل بعد ضمانها لحياة دائمة الاستقرار المالي والاجتماعي مع عيسى الحب، كما لا تعرف تسميةً له إلا هذه، باستثناء عبارة طويل العمر حين يكون معها برفقة بعض الأشخاص خارج المنطقة والبلد الأصلي الذي هو بالنسبة لها كل الخليج باستثناء دبي التي كان يجازف حينها بالظهور معها في بعض المواقف لعلمه بأنها زوجته في حكم علم الجميع وان كان لا يجرؤ على البوح به رسمياً إلا في حدود ضيقة.


****

Comments

Popular posts from this blog

رؤية معاكسة ضد تيار المقاطعة!