مقطع من رواية (يسرا البريطانية)
مقطع من رواية (يسرا البريطانية)
بفندق”H” بلندن تسلمت أول راتب لها كعاملة بقسم خدمة الغرف، تعلمت ترتيب الغرف من خدمتها كنزيلة بأحد السجون بدبي وأدركت من يومها أنها لن تقبل كلاجئة سياسية لأسباب عديدة، منها أنها لم تثبت انتمائها السياسي، ولا نشاطها السياسي، وإنما هناك قضية رفعت عليها في محاكم دبي بتسهيل الدعارة وحتى هذه خرجت منها ببراءة بعد شهر ونصف من الاحتجاز، ولم يثبت عليها شيء فقررت وجهتها إلى بريطانيا من خلال تأشيرة سياحية، تحولت فيما بعد إلى احتجاز وتحقيق طويل ادعت من خلاله بأنها عذبت بسبب آرائها السياسية ورغم تُوسط اثنين من رجال الأعمال الانكليز لها وتقديم التسهيلات كتوكيل محام ودفع التكاليف إلا أنها ظلت معدمة، وغير قادرة على التكيف مع الوضع المزري الذي جرى لها في بريطانيا وتمنت في وقت من الأوقات السقوط في حفرة، أو تصدمها سيارة، أو يسقط عليها سقف المكان ولا تبقى في لندن أو تذهب إلى دبي، فقد خسرت نضارتها لفترة وأصابها الهزال، وغاب بريق عينها الذي طالت بسببه المديح والغزل وهي تعمل بإحدى الوكالات السياحية التي تنظم رحلات جماعية “تورز”.
يسرا القرمزي، من مواليد البصرة بالعراق وخريجة، كلية الاقتصاد بجامعة حلب والمقيمة بمنطقة أبراج الحمام، لم تكمل درجة الماجستير، والعاملة والموظفة بالخطوط الجوية التركية في لبنان، هي واحدة من النساء اللواتي قذفتهن ماكينة العنف في العراق ولجأت للزواج من أحد رجال الدين، بعد أن وعدها بحياة كريمة انتهت منه بطلاق وعدد من الكدمات على وجهها التي تطلب منها أسابيع مشوبة بالمرارة، والقهر النفسي لتمحيها من سطح خدها الأبيض كالحليب، ولكنها عجزت عن مسح تلك الكدمات من داخلها، فظلت قابعة كنتواءت أزلية لم تمحها تلك الأيام الكالحة بالمرارة وهي تعبر الحدود العراقية التركية مخلفة وراءها الموت والدمار والأسرة المشردة على أطراف ثلاث دول، كانت تأمل من الليالي والنهارات السوداء بطعم الذعر، أن تزيح تلك البقع النفسية المحفورة في مشاعرها وهي تهرب من كنف الوحش البشري الذي تزوجها قبل النزوح إلى دبي أرض العسل والسهر، لكنها فوجئت بأن العسل الذي وجدته في المال والبذخ كان مغموساً بالوجع الناجم عن دهسها تحت بناية تزيد عن 120 طابقاً اسمها برج خليفة، حيث لم تنفع كل تلك السحب الرمادية وهي تعبر الطوابق العليا من البناية، ولا رائحة الصنوبر المنبعثة من حمامات الغرف العليا من محو آثار ليلة واحدة، اغتصبت من قبل الزوج الطارئ من دبرها من قبل الزوج الطارئ الذي استخدمها لأيام ثم هربت بعد أن كرهت عادته الغريبة حين يقرأ القرآن ويصلي ركعتين قبل أن يغتصبها كل ليلة.
*****
طردت الفكرة رغم مغرياتها وطفقت تنغمس باللهو مع ساكني الفندق وحياتهم المثيرة بالسخرية، ولكنه تبقى هذه القصص الصغيرة ممرات يومية تلهيها عن الغوص في الذات وتعذيبها باسترجاع الماضي وصوره المعتمة، باشرت الغوص في تلك الرحلة من التفاصيل المضحكة المبكية مع زبائن الفندق وتوقفت عند سعاد البشراوي المقيمة بالغرفة رقم 433 التي جاءت من السعودية وتحمل جنسيتها وتتحدث بلكنة لبنانية، وتقبع في بشرة سمراء فاتحة، لا تركب مع اللكنة وتتميز بثراء فاحش ولكنها لا تغادر سويت الغرفة إلا بالليل، دأبت على غير المعتاد بتنظيف المكان بوجودها معها حتى كانت تشاهدها بملابس النوم أو بالاعتكاف في الفراش، شعرت في البداية بالإحراج من العمل كما لو كانت تراقبها ولكنها اعتادت فيما بعد على إجراء بعض الحوارات السريعة المقتضبة عندما راحت الأخرى تمطرها بالأسئلة بعد أن عرفت جنسيتها العراقية، كما إنها حرمت من التلصص عليها أو بالبحث في مقتنياتها أو بتفحص أوراقها وفواتيرها، ولهذا لم تستطع بلوغ المعلومات التي كانت تتوق للحصول عليها واكتفت بقراءة تصرفاتها المعقدة، حامت الشكوك حولها وهي تشاهدها لا تترك الجوال يسقط من يدها وتتحدث مع أشخاص بكافة اللغات ومن دون أن يكون حديثها مباشراً، على الأقل هذا ما خلصت إليه وهي معها حتى كانت ظهيرة حينما فوجئت بها تتناول فطورها المتأخر فهمت بالمغادرة معتذرة ولكن الأخرى أصرت على أن تتناول الفطور معها، فجرت محادثة لم تتوقعها.
” عذرا .. سياسة الفندق تحظر الجلوس و مشاركة الزبائن”
قفزت المرأة من مكانها وهي بالبيجامة الصفراء المخططة بالأسود وقد كشفت عن جسد ناضج متناسق ينضح بالأنوثة ومؤخرة مكتنزة هي لاشك تثير الرجال، هذا ما دار في خلدها، أسرعت وأقفلت الباب وسحبتها من يدها وجلست بمواجهتها بينما هي على الكنبة المدورة بين السرير وطاولة المرآة.
” لن يعلم أحد ما يجري، إلا إن كانت هنا أيضاً كاميرات”
تذكرت بأن عربة التنظيف خارج الغرفة، ولكنها أمسكت عن الكلام، نظرت إليها وهي تضحك وقد لمحت في طرف عينيها ذكاء يخفي الكثير من الأسرار، كانت تشعر لحظها بخوف من المرأة لم تشعر به حتى عندما كانت نازحة على الحدود، جفلت لوهلة وهي مترددة في مد يدها صوب صينية الطعام وكانت حائرة من أين تبدأ حتى بادرتها المرأة قائلة بلهجة صارمة.
” لن آكل شيئاً إن لم تبادري معي”
تناولت حبة زيتونة سوداء وسط ضحكة منفلتة من المرأة اللغز كما أوحى لها خيالها وهي تتأمل حركاتها السريعة المتوترة.
” شبعت؟”
توقفت سعاد البشراوي عن الطعام وسألتها فجأة مغيرة دفة الحديث.
” كم عمرك؟”
” أعتقد سبعة وعشرين”
نهضت البشراوي وهي تنهي الحديث، اتجهت نحو الباب فتحته، واستأذنت منها وهي تودعها بنبرة ودية.
“سنلتقي في زحمة الحياة”
ثم استطردت قبل أن تخرج قائلة بنيرة ذات مغزى كما فهمت منها يسرا.
” سيكون لكي شأناً يوماً ما، صدقيني”
from WordPress دار لوتس للنشر
via IFTTT
Comments
Post a Comment