البحر وأنا
البحر وأنا
مسودة
في السنوات السبع الأولى من العمر يبدأ الإنسان عادة يدرك ما حوله، ويتنفس المعرفة الأولية بالحياة التي عادة تولد بسيطة وعفوية ثم تتعقد، بحثت أولاً عما أميزه.. وكان البحر أول من استوقفني وأرهبني صوته، وتكسر أمواجه على السواحل الصخرية، بدأت ألمسه.. أدخل قدماي في رمله ويبدأ بمصافحتي.. تعاهدنا حينها على صداقة لا تنتهي
.. كانت بيوتنا مقسومة إلى جزأين الأول على اليابسة والأخرى ملاصقة للبحر، كنا لا نفترق حتى عندما تثور المياه في منطقة تشتد فيها خطورة المياه حيث تبدأ الحدود من منزل يسمى بيت عبدالنور ويمتد لمنزل آخر يدعى بيت بوخماس.
المنطقة بمجملها كان يحاصرها البحر من كل الجهات كانت معاركنا حتى قبل دخول المدرسة تكمن في البحث عن الشرايب(سرطانات صغيرة لا تؤكل) واللعب بها، وتأمل تلك المخلوقات الصغيرة وكيف تقوى على العيش داخل البحر الهائج، وكيف تحفر بيوتها في الرمل أو تحت الحجارة، كانت (الشرايب) بضاعة يبحث عنها من هم أكبر سناً، وكنا مصدر جلبها لهم نصطادها بعد أن (تثبر) – الجزر- المياه ونسلمهم إياها.
كانت «الشرايب» مادة لصيد أسماك «الميد» بالسم بعد دقه وطحنه ونثره فوق مياه البحر مع – المد- بعد ساعة من الزمن يتحول البحر إلى غطاء أبيض من الميد والقرقفان والعفاطي، وكل ما يلتهم السم من أسماك وكائنات بحرية، يطفح ميتاً ليتحول إلى صيد سهل لأهل الحي، لينطلقوا في سباق من أجل حصاد اكبر ورزق أوفر من الصيد، كان البعض يلاحق الأسماك بالعصا إن كان فيها بقية من روح، ومازلت أستذكر تلك المشاهد الجميلة وكيف كان البحر مصدراً للغذاء والرزق واللهو.
لا أود سرد سيرة حياتي وتجاربي الصغيرة تلك بالقفز عن عشقي للبحر الذي تلبسني لدرجة الهوس بكل تفاصيله من هواء ونكهة وطقوس تشربتها واعدت صياغتها في جميع رواياتي تقريبا من “بيضة القمر” التي صدرت في 2001 وتم مصادرتها ومنعها من التوزيع في كل من البحرين والأردن بعد خطبة يوم جمعة للشيخ نظام يعقوبي استوفى كل جهده في مهاجمتها واتهامها بشتى النعوت وقد رددت عليه في جريدة الأيام في وقتها، كان يومها وزير الإعلام نبيل الحمر وقد افرج عنها لاحقاً كما تم توزيعها بعد ذلك في الأردن وقد ابلغني بمنعها هناك ماهر الكيالي صاحب المؤسسة العربية للدراسات والنشر وهي الدار الناشرة، بالإضافة الى ذلك تمكن البحر من روايتي “قمر باريسي” و” الخراف الضالة” وحتى الساعة لا اشعر بأنني أوفيت البحر حقه برغم كل هذا التوظيف له، كذلك في “الخراف الضالة” لم أبتعد عن البحر أبداً، وعلاقتي به سلطت على شخوص الروايات الثلاث وأبطالها.
الذاكرة اختزنت بداخلي أسرار البحر ومنحتي الإلهام كي أتعرف على ما يدور فيه وحوله بدأت اكتساب المعلومة وتوظيفها حتى قبل دخول المدرسة، إذ كان البحر معلمي الأول وما يزال، لا يبخل علي كلما احتجته.. يفتح لي الدروب والأبواب الموصدة.. وينصب فيها مصابيح النور ويكسر الظلام لأبد السير بأريحية وثقة متناهية. من أين جاء البحر وكيف بدأ كل هذا العشق وتلبسني بهذا القدر؟ كان الخال رحمه الله علي الديك ويلقب من البحارة والسكان وكل من يعرفه ب: (بوعلوة) أحد أشهر البحارة في ساحل المحرق هو وسلمان الديك، حيث بدأت حياتهما ورحلا عنها من البحر والى البحر، ففي سنوات عمري الأولى وقبل بلوغي الخامسة من عمري كان يأخذني معه في البداية في الرحلات البحرية القصيرة ليوم واحد وعادة ما كانت هذه الرحلات عبارة عن نزهة بحرية تأخذ السفينة عدد من الأجانب (الانكليز) مع نسائهم الى رحلة ليوم واحد للصيد والسباحة وكانت المناطق لا تتجاوز المركب “الطبعان” وهو قريب من مياه ميناء سلمان اليوم اذ لم يصل وقتها العمران الى هذا الحد فكان البحر يبدو بعيداً وعميقاً، ثم بدأ تدريجياً يأخذني للرحلات الطويلة التي تمتد عادة ثلاث لياليٍ ونبحر فيها الى مناطق قريبة من قطر ومن الفشوت.
وللبحر قصة طويلة ومتناهية الخيال سأفصلها في الكتاب القادم من السيرة البحر وأنا.
مسودة
from WordPress دار لوتس للنشر
via IFTTT
Comments
Post a Comment